قليلون من البشر يتغنى بهم اعداؤهم قبل اصدقائهم، ونيلسون مانديلا كان واحدا من هؤلاء. سبقه المهاتما غاندي وعاصره الناشط الاسود الامريكي، مارتن لوثر كينغ. بدا كل من هؤلاء طودا شامخا في مقابل اعدائهم، فاضطر هؤلاء لمدحهم، ليس حبا في اهدافهم، بل خشية من السقوط الاخلاقي امام الجماهير.
استقبل زعماء امريكا وبريطانيا مانديلا بعد الافراج عنه في 1990، وهم الذين تواطأوا مع نظام الفصل العنصري عقودا ودعموه سياسيا وامنيا. رحل كل اولئك الزعماء، ولم تذرف دمعة عليهم، ولم تخلد اسماؤهم الا على القوائم السوداء للطغاة وداعميهم بالسياسة والسلاح واجهزة الاستخبارات. اليوم بعد ان ترجل فارس الكفاح من صهوة جواده، صدرت كلمات النعي والرثاء من كل زاوية في العالم، حتى من سجانيه ومعذبيه، وتجلى النفاق السياسي في أبشع صوره. ربما اكتسب مانديلا جانبا من قوة شخصيته من تجربته السياسية بعد سقوط النظام العنصري وفوزه برئاسة اول نظام ديمقراطي تعددي في جنوب افريقيا منذ ثلاثة قرون، ولكن سنوات النضال وصموده 27 عاما وراء القضبان، هي السبب الرئيسي لما اكتسبه من شهرة واهمية وبطولة. فمعارضو الاستبداد والظلم هم الذين يخلدهم التاريخ لانهم مناضلون حقا، ورجال الحكم نادرا ما يجسدون بطولات خارقة. فما يزال العالم يتذكر المناضل الجنوب افريقي، ستيف بيكو، الذي قتله معذبو نظام الفصل العنصري في ايلول/سبتمبر 1977، ومحمد الدرة الذي قتله الصهاينة في 2001 مع طفله، ولكن من يتذكر أرييل شارون او شاه ايران او بينوشيه؟ النضال من اجل الحرية وحقوق الآخرين، وتحدي الاستبداد ومواجهة الطغيان، هي التي تصوغ الشخصية وتخلد صاحبها، وتجعله مدرسة للاجيال اللاحقة. لهذا اصبح مانديلا مثلا يتطلع له رواد الحرية في العديد من الدول العربية، ويطلقون اسمه على مناضليهم الرازحين في السجون. ففي آب/اغسطس الماضي وصف الرئيس المالي السابق ورئيس وفد لجنة الحكماء الإفريقية عمر كوناري الرئيس مرسي بأنه ‘نيلسون مانديلا مصر’، مؤكدا أن الاتحاد الإفريقي لم يغير موقفه الرافض للانقلاب. وشبهت الناشطة السياسية اليمنية، توكل كرمان، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام الرئيس مرسي بنلسون مانديلا المناضل الجنوب افريقي، مشيرة إلى ان كلاهما حاصر النظام المستبد وهو في المعتقل، حاكمهم وهو في قفص الإتهام. ووصف بعض النشطاء البحرانيين الناشط الحقوقي السجين، نبيل رجب، بانه ‘مانديلا البحرين’. وفي شهر ايار/مايو الماضي وصف الصحافي الامريكي توماس فريدمان الرئيس عبدربه منصور بــ’ مانديلا اليمن ‘ وذلك لاسلوبه في التعامل مع الأزمة التي مرت بها البلاد. وبغض النظر عن دقة تلك التوصيفات، فانها تعكس رتبة الشرف العالية التي بلغها المناضل الافريقي.
وبرغم ما يرفعه زعماء الغرب اليوم من شعارات ضد العنف والارهاب، فقد ارغموا على مسايرة الرجل واختيار الكلمات الايجابية بحقه. كلهم قرأ خطابه امام القاضي العنصري في 20 نيسان/ابريل 1964 خلال محاكمته الشهيرة، الذي اعترف فيه بانه ‘أسس مشروع التخريب’ حسب مصطلحات سياسيي الزمن الحاضر، عصر الانحطاط الاخلاقي والقيمي والنفاق السياسي غير المسبوق. فها هو مانديلا يعترف بدوره ‘التخريبي’ قائلا: ‘ان بعض ما قيل في هذه المحكمة صحيح وبعضه خطأ. ولكنني لا انكر انني خططت للتخريب. لم افعل ذلك بسبب التهور او بسبب حبي للعنف، ولكنني خططته بعد تقييم هادىء للوضع السياسي الناجم عن سنوات من الاستبداد والاستغلال والظلم لشعبي على ايدي البيض’. هذا الاعتراف يجعله بدون شك في خانة ‘الارهابيين’ الذين يفترض ان لا يحظوا باحترام الساسة الغربيين الذين يتظاهرون بمحاربة الارهاب والعنف. ولذلك وضعه البريطانيون على قائمة الارهاب حتى انتخابه رئيسا في 1994 والامريكيون حتى 2008. صحوة ضمير العالم فرضت على هؤلاء خطابا آخر، تجاهلوا فيه الدور السابق لمانديلا، وهو دور فرضه الشعور بالألم، فكان صرخة موجهة للنظام العنصري وداعميه الذين لم تستفق ضمائرهم ولم يستمعوا لآهات المحرومين وضحايا العنصرية البيضاء. استطاع مانديلا ان يخرج الى العالم من زنزانته بجزيرة ‘روبين’ التي مكث فيها 27 عاما، ليفرض نفسه بجدارة على سجانيه وداعميهم في لندن وواشنطن. ولكن غيره لم توفر له فرصة كهذه. فالزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، مر بظروف مماثلة جدا لمانديلا، وقاد حركة مقاومة مسلحة، واستهدف مرارا، وفي النهاية رحل عن الدنيا قبل ان يحقق حلم شعبه، وقبل ان يحين موعد رحيله. وبرغم طبيعة وفاته، لم يعبأ أحد بالتحقيق في مرضه الا مؤخرا، فاكتشف انه اغتيل بالسم.
ما سر عظمة الرجال؟ ولماذا يتسابق السياسيون والمعارضون للاطراء على الرجل الاسود الذي امتد عمره ليصبح رئيسا وليحقق بعضا من اهدافه؟ كان مانديلا يحلم بنظام يحكم جنوب افريقيا، قادر على جمع المواطنين وازالة الحواجز التي فرضها نظام الفصل العنصري، وان يسود الاخاء والتفاهم والحوار بدلا من التقاتل، ورفض منطق الانتقام كاملا. وبرغم نجاحه في تخطي عقبات التحول الى نظام ديمقراطي مؤسس على شعاره المعروف ‘صوت لكل مواطن’ الذي يتضمن المساواة والعدالة في توزيع النفوذ السياسي، الا ان الصراع الداخلي لم يتوقف. فسرعان ما رأى بعينيه السلاح تحمله يد سوداء ويوجه الى صدر أسود. وهذه معاناة الكبار دائما. فاعداء الحرية وقوى الثورة المضادة لا تتوقف عن التآمر والتخطيط للعنف. لقد كاد غاندي يتفجر أسى وغيظا بعد استقلال الهند وهو يرى الاقتتال الداخلي يعصف بالمجتمع الهندي وفق خطوط التمايز العرقي والديني، ويؤدي الى تقسيم بلاده ليصبح للمسلمين كيانهم الخاص في باكستان. وما اكثر ما عاناه ياسر عرفات من الاقتتال الداخلي بين الفصائل الفلسطينية. مشكلة التآكل من الداخل تنجم احيانا نتيجة الجهل والعصبية وغياب القيم، واحيانا بسبب تخطيط قوى الثورة المضادة، كما حدث في مصر مؤخرا. فوحدة الصف الوطني آفة انظمة الاستبداد، وهذا ما يعانيه عالمنا العربي والاسلامي اليوم بسبب الاثارات الطائفية التي اصبحت السلام المفضل بايدي قوى الثورة المضادة لمنع التغيير. عالمنا العربي يحتاج لتغيير جوهري في نظامه السياسي بقيادة رجال مثل مانديلا الذي تميز بصموده واصراره ورفض مساومة اعداء شعبه. لا شك ان مرسي ليس مانديلا، ولكنه لو امتلك شجاعة الموقف وأعلن بصراحة عن القوى التي تآمرت ضد حكمه، ودعا لوحدة المسلمين وتعاطى بايجابية مع كافة الثورات العربية، بدون استثناء، فربما اكتسب مكانة عالية في ميزان الخلق السياسي ودرجات المجد، على غرار مانديلا. ما اكثر الرجال القادرين على قيادة شعوبهم نحو الحرية، ولكن قوى الثورة المضادة تحول دون ذلك بكل قوة. ودموع التماسيح التي ذرفت على مانديلا تخفي حقيقة اصحابها الذين لم يؤمنوا يوما بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم يحترموا حقوق مواطنيهم، وربما يفوق بعضهم في إساءة معاملة معارضيه ما فعله نظام الفصل العنصري بحق مانديلا الذي سمح له ان يتحدث امام المحكمة ويلقي خطابه التاريخي الذي اعترف فيه بدوره في اعمال العنف ضد نظام الفصل العنصري.
زعماء الغرب تسابقوا في نعي مانديلا بعد وفاته. كما تسابقوا لاستقباله بعد الافراج عنه قبل 23 عاما، اما بدعوته لزيارة بلدانهم، او بزيارته في جوهانسبرج. كما نصبوا له تماثيل في الساحات العامة، فالرئيس الامريكي، باراك اوباما نعاه قائلا: ‘إنه حقق أكثر مما يمكن أن يتوقع من أي رجل… هو اليوم ذهب إلى مثواه الأخير ونحن خسرنا أحد أكثر البشر تأثيرا وشجاعة ونقاء’. ويستطيع اوباما ان يكون رجلا تاريخيا لو سار على نهج مانديلا فتصالح مع العالم واعاد توجيه بوصلة السياسة الامريكية بعيدا عن الحرب والعنف، واكثر ميلا لنشر الحرية والديمقراطية والتخلي عن دعم الاستبداد، خصوصا في العالم العربي. اما المستشارة الألمانية انغيلا ميركل فقد قالت ان ‘المثل الساطع لنيلسون مانديلا والإرث السياسي لمعركته غير العنيفة وكذلك رفضه لكل أشكال العنصرية ستبقى إلى زمن طويل مصدر إلهام لشعوب العالم بأسره’. بينما عبر رئيس الحكومة الفرنسية جان- مارك ايرلوت عن حزن فرنسا لرحيل مانديلا قائلا انه ‘ترك إرثا. ونحن جميعا نتحمل مسؤولية هذا الإرث’. ووصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على حسابه على تويتر رحيل مانديلا بانه ‘نور كبير خبا’. وأضاف أن ‘نيلسون مانديلا كان بطل عصرنا’. هذه التصريحات تعبر عن شعور شخصي لكل من هؤلاء بان الرجل كان اكبر منهم جميعا، ليس لانه كان رئيسا بل لانه كان مناضلا صامدا رفض الاستسلام لجلاديه وداعميهم في العواصم الغربية.
سيتحدث الكثيرون عن زعيم النضال الافريقي، ولكن الاهم من ذلك ان يستلهموا من حياته دروسا عملية تضعهم على طريق التحرر الكامل ليهزموا انظمة الاستبداد والعنصرية والطائفية، خصوصا في العالمين العربي والاسلامي. وفي الوقت الذي يتعرض فيه المناضلون من اجل الحرية للضغوط داخل السجون للمساومة والتنازل، من الضروري استحضار الموقف التاريخي لمانديلا عندما حاول رموز النظام العنصري الحوار معه في السجن. فقال كلمته المشهورة ‘من لا حرية له لا رأي له’. فمن الخطأ ان يقبل سجناء الرأي بالتحاور مع سجانيهم وهم في القيود، بل يجب ان يقوم الحوار على قدم المساواة بعيدا عن الاجواء التي تتيح لاحد الاطراف ممارسة الضغط او التهديد بالمزيد من التنكيل والتعذيب، كما هو الحال في سجون الدول العربية مثل مصر والبحرين. يقول أحمد كاترادا، رفيق درب مانديلا: عندما كنا في السجن قررنا عدم القيام بما يخل بكرامتنا (اي المساومة او التنازل او الاستسلام لضغوط المعذبين). الدرس الثاني عدم اظهار الضعف امام السجانين ورؤسائهم، وعدم السماح بالدخول في صفقات من اجل تحقيق هدف شخصي. فعندما عرض على مانديلا الافراج عنه في مقابل عدم التدخل في السياسة رفض ذلك قائلا: ‘أنني اعشق حريتي (الشخصية) ولكن حرية شعبي هي الأهم’. الدرس الثالث عدم القبول بانصاف الحلول او تجرئتها او تأجيلها، فتلك اساليب يستخدمها الديكتاتوريون لاضعاف معارضيهم وتفتيت صفوفهم وكسب الوقت للاجهاض عليهم. وصمود المناضلين امام تهديدات الحكم او اغراءاته او وعوده. ان انصاف الحلول يفشل الثورات ويؤجل المشاكل ولا يحلها، خصوصا في مجال الحريات العامة والممارسات الديمقراطية واحترام حقوق الانسان واقامة حكم القانون. الدراس الرابع: الابتعاد عن سياسة الانتقام من الآخر المختلف سياسيا وفكريا. وهذا عكس ما يمارسه حكام الاستبداد الذين يشيدون صروحهم على الانتقام من المعارضين، وليس وفق مقتضى القانون. اراد مانديلا ان يستبدل النظام العنصري بآخر يساوي بين المواطنين ويؤسس على مبدأ ‘لكل مواطن صوت’، الامر الذي يرفضه حكام الاستبداد عادة، خصوصا في العالم العربي. وتعتبر ‘لجنة الحقيقة والمصالحة’ التجسيد العملي للتسامح والتصالح والتصافي وكشف الحقائق. كما انها تعتبر عقابا نفسيا للجلادين الذين تفرض عليهم اللجنة الاعتراف بما ارتكبوه من جرائم في مقابل عفو الضحايا عما لحق بهم من تعذيب وسوء معاملة. الدرس الخامس: ان التغيير يتحقق اذا كان لدى المناضلين ارادة الاستمرار وتحمل اعبائه، كما قال مانديلا: ‘لا تستطيع القيود كسر الارادة البشرية’. وهذا شبيه بقول ابي القاسم الشابي: اذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد ان يستجيب القدر. انها الروح التي اسقطت النظام العنصري في جنوب افريقيا وألغت حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح من الحياة السياسية. الدرس السادس: ان السجن مدرسة الاحرار، ومصنع الثوار، فكلما اكتظت السجون بمعتقلي الرأي، ازدادت قضايا الديكتاتور وعصابته تعقيدا، فاذا صمد المعتقلون توسعت دائرة الاحتجاجات وتضاعفت اعداد السجناء، وهذا يؤدي لغلق كافة الابواب التي يستطيع النظام الديكتاتوري تمرير حلوله من خلالها. الدرس السابع: ان السجن الانفرادي يصوغ شخصية المناضل، ويزيده اصرارا ، اذا كانت ارضيته الايديولوجية او الدينية متينة، فقبح النظام الحاكم يتجلى بوضوح، ويتلاشى بين حيطان الزنزانة الانفرادية الضيقة أي أمل في إصلاحه. السجن الانفرادي ينقي عقل المناضل وروحه ويعمق قناعته بقبول اية تسوية ما لم تؤد الى مشروع اصلاحي شامل يلغي الديكتاتورية والاستبداد بدون قيد او شرط. الثامنة: ان مبدئية الرجل دفعته للالتزام بمبدأ رد الجميل بعد ان وصل الحكم، فرفض قطع علاقاته مع الدول التي ساعدت شعبه في سنوات النضال. فمد جسوره لايران في الوقت الذي كان الغربيون يرفضون ذلك، لان الجمهورية الاسلامية بادرت، فور انتصار ثورتها، لوقف امدادات النفط للنظام العنصري في جنوب افريقيا ونظام الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين. وبقيت العلاقات متينة حتى اليوم. واستمر دعمه للقضية الفلسطينية حتى آخر حياته بعد ان جرب غصص النظام العنصري الحليف للصهاينة. وقد برر نتنياهو عدم حضوره مراسم تشييع مانديلا باسباب اقتصادية. وبقيت علاقة مانديلا مع ليبيا حميمة لان القذافي دعم النضال ضد النظام العنصري وامده بالمال وربما السلاح. ولذلك وقف الغربيون عاجزين عن التأثير على حكومة جنوب افريقيا طوال العشرين عاما التي اعقبت الافراج عن مانديلا من السجن، وسعوا لمد الجسور معها على أمل ممارسة شيء من النفوذ عليها لاحقا.
ما اكثر الدروس المستفادة من تجربة جنوب افريقيا في ظل النظام العنصري ودور الرئيس الراحل نيلسون مانديلا في فرض التغيير الكامل برغم معارضة الغربيين طوال عقود من الزمن. ففي مقابل اصراره على مواصلة طريق النضال من اجل تحرير شعبه من النظام العنصري ولو ادى ذلك الى قتله (كما جاء في خطابه امام محاكمته الشهيرة) طرح مبدأ التسامح مع عناصر نظام الاقلية البيضاء الذي كان سببا لمحنة الشعب والمعاناة الشخصية للمعارضين. اصداء تلك التجربة تتردد في بلدان الربيع العربي، خصوصا التي لم تحقق ثوراتها اهدافها بعد. هذه دروس نضالية يجدر الاخذ بها، فهي حصيلة تجربة مناضل ناجح حقق الحرية لشعبه، ومضى محبوبا من اصدقائه ومهابا من اعدائه.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن