ما أسهل تغيير الرؤوس وما أصعب تغيير النفوس!

هل تغيرنا فعلاً، نحن العرب، بعد أن ثرنا على الطواغيت؟ هل ثرنا فعلاً كي نتغير؟ هل يمكن أن نتغير بمجرد الإطاحة بمن كانوا يحكموننا؟ أم إننا نسخة طبق الأصل عنهم، وبالتالي سنستنسخهم مرات ومرات بدل انتاج ثقافة جديدة؟ ما هو المدى الزمني الذي نحتاجه كي نتحرر فعلاً من الثقافة القديمة، التي زرعها في عقولنا وقلوبنا الطغاة الساقطون والمتساقطون؟
لا أحد يستطيع أن ينكر أن كل شرائحنا الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية هي عبارة عن نتاج الأنظمة، التي فرضوها علينا منذ عقود وعقود. إننا بلا أدنى شك نتاج الأنظمة التربوية والدينية والاجتماعية والثقافية التي حكمت بها الأنظمة الساقطة والآيلة للسقوط. وبالتالي: هل نحن قادرون على التحرر من تلك الأنظمة، ومتى؟ ألا يخشى أن نعيد استنساخها جيلاً بعد جيل؟ تقول إحدى الكاتبات: ‘نسمع صوت طبول الحريّة من بعيد. نعتقد أنّنا سنعيش بعد أيام لحظاتٍ لا تنسى، نعوّض فيها عقود القهر والاستبداد. لكن كلّ هذا مجرّد أحلام يقظة ليس إلا، فالمستبدّ مختبئ فينا ريثما تحين له الفرصة، ليخرج المارد من قمقمه ليصول ويجول، مكفّراً هذا بالدّين، وذاك بخيانة القضايا’.
لا شك أن الكثيرين ينتابهم مثل هذا الشعور بعد انقشاع غبار الربيع العربي، فقد ظن البعض أن مجتمعاتنا ستتغير مائة وثمانين درجة بمجرد تغيير أنظمتها السياسية، دون أن يعلموا أن أبسط أنواع التغيير هو التغيير السياسي، أما أصعبها فهو التغيير الاجتماعي والثقافي، فالثقافة التي أنتجت الطواغيت والمستبدين السياسيين يمكن أن تعيد انتاجهم طالما لم تتغير العقليات والذهنيات الثقافية السائدة في هذا المجتمع أو ذاك. لهذا لا بد أن تترافق التحولات السياسية مع تحولات اجتماعية وثقافية عميقة حتى لو استغرق ذلك وقتاً طويلاً، خاصة وأن العادات والتقاليد تموت بصعوبة بالغة، كما يقول غوستاف لوبون في كتابه الشهير ‘سيكولوجية الجماهير’.
لقد كان الكثيرون يتصرفون أيام الطغيان على أسس طائفية وعرقية ومذهبية وعشائرية وقبلية مفضوحة، وكانوا يبررون ذلك بأن الطغاة هم من قسّم المجتمعات إلى ملل ونحل متصارعة عملاً بمقولة: ‘فرق تسد’. ولا شك أن هذا صحيح تماماً.
لكن هل الأنظمة السياسية الجديدة تريد فعلاً أن تتخلص من ذلك الإرث السياسي والثقافي البغيض؟ بالطبع لا. ربما تحاول أن تغير في الشكل، لا في المضمون، خاصة وأن المجال الثقافي لم يتغير، بل سيبقى على حاله ربما لعقود وعقود. أضف إلى ذلك أن تلك الجماعات السياسية الجديدة التي بدأت تحل محل الأنظمة القديمة ربما تعمل على تكريس الثقافة السياسية القديمة مع تغيير بسيط في أسلوب العمل. ولعلنا لاحظنا كيف أن العراق مثلاً تطور طائفياً، ولم يتطور ديمقراطياً، لأن القيادات الجديدة عملت على تقوية الواقع القديم، لا بل أبرزته إلى السطح بطريقة مقززة من خلال المحاصصة الطائفية البغيضة.
هل ستقوم الطبقات السياسية الجديدة مثلاً بإجراء تغييرات جذرية على مناهج التعليم، بحيث تقطع تماماً مع العهود القديمة مرة وإلى الأبد؟ هل ستتحدى الثقافة الاجتماعية السائدة، كما تحدت الأنظمة السياسية؟
نستطيع أن نقول ببساطة إن تغيير الرؤوس دون تغيير النفوس بعد الربيع العربي هو أشبه بقطع رأس جبل الجليد الظاهر فوق الماء، والذي لا يشكل عادة سوى خمسة بالمائة من الجبل الذي يقبع جله تحت الماء.
إن أول ما ينبغي على الأنظمة الجديدة فعله، إذا كانت فعلاً صادقة في التغيير، ولا تريد فقط إعادة انتاج الأنظمة القديمة، هو القيام بثورات ثقافية عارمة تقلب رأساً على عقب أنماط التفكير والعقليات الاجتماعية المترسخة، إذا كانت صادقة في التغيير فعلاً.
لا بد أن نعلم أن التركيبة الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك لن تتغير بمجرد سقوط النظام السياسي. ففي كل منطقة من بلادنا العربية نمط ثقافي واجتماعي يعتبره الناس العاديون قبل الوجهاء مقدساً. والسؤال إذاً: ما قيمة التغيير إذا كان إسقاط الرؤوس السياسية مباحاً، بينما إسقاط المقدسات الاجتماعية والثقافية المصطنعة محرماً؟
هل يقبل أعيان تلك المنطقة أو تلك في الجمهوريات العربية التي شهدت تحولات سياسية وثورية أن يتخلوا عن وضعياتهم الاجتماعية؟ هل يسمح أتباعهم بذلك أصلاً؟ بالطبع لا.
لقد أكد لوبون في كتابه المذكور أعلاه أن ‘القادة الحقيقيين للشعوب هي تقاليدها الاجتماعية والثقافية الموروثة’ التي لا تتغير بسهولة إلا شكلياً. ويضيف لوبون:’عندما يتيح شعب ما لأعرافه وتقاليده أن تترسخ بقوة زائدة طيلة أجيال عديدة، فإنه لا يعود يستطيع التطور، ويصبح عاجزاً عن التغيير والإصلاح’.
في الكثير من الجمهوريات التي حدث فيها التغيير السياسي هناك هرمية ثقافية واجتماعية لا تخطئها عين. هل يتجرأ أحد على تحطيم تلك الهرمية الاجتماعية والطائفية والعائلية بنفس الطريقة التي تم فيها تحطيم النظام السياسي؟ للأسف لا، فالموروث الثقافي والاجتماعي يحظى بقدسية أكبر بكثير من الموروث السياسي الذي رأينا الجماهير في أكثر من منطقة تحطمه وتدوس رموزه ببراعة عز نظيرها. السؤال المطروح الآن: هل تريد الجماهير الإطاحة بثقافاتها الاجتماعية الوضيعة، أم إن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن تتجرأ على الاقتراب منها؟
ذات يوم سألت مسؤولاً كبيراً: ‘لقد جئتم إلى السلطة قبل عقود وأنتم تتوعدون الطبقات الاجتماعية والثقافية القديمة بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنكم تحالفتم معها شيئاً فشيئاً، لا بل عززتم مواقعها ووظائفها’، فرد قائلاً:’ هذا صحيح، لكن ليس لأننا نريد تكريس وضع قديم، بل لأننا وجدنا أن هناك قطيعاً كبيراً من الناس يسيرون خلفها بشكل أعمى، ولا يريد أن يمسها بأي تغيير، فقلنا لأنفسنا: بما أن القطيع لا يريد التغيير، لا بل من الصعب تغييره هو نفسه، فلنسر وراء تلك الطبقات القديمة التي تقود القطيع، وتتحكم به طالما أنها تحفظ الاستقرار ولا تهدد النظام السياسي’.
لا شك أن كلام المسؤول أعلاه فيه الكثير من الخبث، فهو استغل تلك الطبقات القديمة للحفاظ على النظام الجديد. وهذا ما يجب على الأنظمة الجديدة بعد الربيع العربي أن تتجنبه، وأن لا تؤثر الاستقرار على التغيير الحقيقي.
لا شك أن الربيع العربي حدث عظيم في تاريخ المنطقة. وهو المقدمة الصحيحة للبدء بالتغيير الشامل. لكن يجب على من يريد التغيير الجذري فعلاً أن لا يكتفي بتغيير الأنظمة السياسية، ثم يقول لنفسه: سقط الطغاة وانتهت الثورات. لا لم تنته الثورات بسقوط الطغاة، بل بدأت. وإذا لم تستمر النخب الثورية بمتابعة المسيرة الثورية سيكون من حق المتشائمين أن يقولوا بحسرة: إن الطبقات والهياكل والأطر والعقليات والأشخاص الذين صنعوا العهود الساقطة مازالوا موجودين بيننا بعد الثورات، جاهزين لتطبيق قانون التّخلف والاستبداد مرة تلو الأخرى. إنه صراع مرير بين قوى الرجعية بمختلف أشكالها السياسية والثقافية والدينية وقوى التغيير. ولو نظرنا إلى طبيعة الصراع الآن في بلدان الربيع العربي نجد القوى القديمة تشن ثورات مضادة شرسة اعتماداً على الموروث الجاهز لديها. لاحظنا ذلك من قبل في الجزائر، حيث تمخضت الثورة على مدى التسعينات عن عودة كاملة متكاملة للنظام القديم بكل أشكاله. وكذلك الآن في مصر، حيث يعود النظام القديم بشراسة رهيبة وسط تصفيق نفس الشرائح التي ثارت عليه. ما أحوجنا إلى ثورات ثقافية عارمة قبل أن نحلم بالتغيير المنشود، وهو للأسف ممنوع حتى الآن!

‘ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مشاهد مغترب:

    يا استاذ فيصل العلة الاساسية فينا هي الكذب ، وبما انك خبير في الاتجااه المعاكس ماعليك الا بحلقة الكذب والصدق وتدعو كاذب وصادق هذا اذا وجدت صادق / اني اقترح طفل صغير لانه لم يتعلم بعد الكذب /

  2. يقول omar aljawbreh:

    اسباب كل العلل البعد عن الدين ،، والا لماذا السلف قاد العالم كله ،، لانهم تربوا على الدين ومنه تنبثق الرجولة والاخلاق والدبلوماسية والكرامة وووووو وحدث كما تشاء

  3. يقول حسين الجزائر:

    اذا كانت النخب العربية غير متفقة على تسمية الاحداث بالثورة فكيف يتفقوا على نتائجها التي جاءت ماساوية وكارثية.
    لنعترف اننا مازلنا بعيدين كل البعد عن النضج الفكري الذي وصلت اليه شعوب حية غير بعيدة عنا جغرافيا(ايران.تركيا.الهند.ماليزيا..)وان مرض القابلية للاستعمار مازال مستشريا في اوصالنا وعقولنا وحتى في سلوكنا وهذا وما قاله المفكر العبقري مالك بن نبي.اما ابن خلدون فيرى ان العرب لا يسودوا الا بنزعة دينية ولا يستطيعوا التحرر من القبلية.
    ان اسقاط الحكام من دون توفر بديل ناضج وصالح للقيادة هو العبث بعينه.فماذا ورث مرسي مصر وزيدان ليبيا وهادي اليمن ومرزوقي تونس وحكام سوريا في المستقبل الا مشاكل مستعصية ومتراكمة طوال عقود.لست مع بقاء الطغاة ولكني مع التغيير السلمي والمثمر.

  4. يقول سامر الحيلاوي:

    ياعين ياعين ياعين برنس

  5. يقول سياف جاسر بني عطا )اﻷردن(:

    سعادة الدكتور فيصل القاسم
    بإعتقادي أنه لن يكون هنالك نجاح ﻷيتها ثوره ﻷننا ﻻ نفكر إﻻ
    بما سيدر علينا ماديا ورفاهيتا من نجاحها.
    الثوره الحقيقيه التي ستحقق النجاح المؤكد ﻻ بديل عنها وﻻ جديد
    لها أﻻ وهي الثوره الدينيه .
    إن كان وهو كان ومازال وإنشاءالله أنه لن يبقى الضعف الديني
    عند بعض رؤساء الدول الإسﻻميه فلماذا ألومه وهو بشر مثلي
    والنقص الديني عندي كما هو عنده .
    فيا أخي العربي والمسلم إصلح نفسك أوﻻ لتصلح غيرك فﻻ جدوى
    من تغيير الحاكم إذا ما كان خلفه مسلم صالح يتقي الله في
    نفسه وبالآخرين.
    ( اﻹسﻻم هو الحل )

  6. يقول محمد محمود *فلسطين*48:

    اريد ان اعترف ان مقال السيد فيصل المحترم تحليل لا باس به – وبودي ان اجتهد واقول ان الشعوب العربيه الذي عاشت عقود من التهميش في اتخاذ القرارات المصيريه والغير مصيريه الذي يخص مستقبلها وهذه الشعوب الذي تعودت ان تقول بشكل عفوي عن قناعه او غير قناعه امرك يا سيدي ليس من السهل على هذه الشعوب استيعاب الحكم الدمقراطي بشكله وهدفه الصحيح قسم لا يستهان من الشعوب العربيه بسبب تلهفه للدمقراطيه وعدم تصديق انه تخلص من حكام دكتاتورين بدئ يفكر ان الدمقراطيه هي فوضى ومباح فعل كل شيئ بما فيه حرق المؤسسات ودور العلم والمحاكم والعتداء على قوات الامن والجيش وقتلها واصدار الفتاوي بحرمة الصلا على جنازات قوات الامن الذي تحمي البلاد وغيرها من الامور الكثيره التي فكر البعض انها مباحه باسم الدمقراطيه =2 = الخطئ الثاني في الثورات العمل على زج الدين في ثورات الشعوب ضد الطغيان واستبدال الطغيان الماضي بطغيان ديني جديد يكفر الناس يمينا وشمالا ويحلل سفك دماء المعارضين ويحلل التفجير والانتحار بحجة الجهاد الكاذب والهدف فقط الوصول للسلطه طالما اتظرتها الاحزاب الدينيه خلال عقود طويله ورات في الثورات وسيله لاستغلالها للوصول للسلطه كما حدث في مصر وما يحدث من صراع في ليبيا وتونس واليمن اذا الاحزاب الدينيه كان لها الدور الكبير بتيئيس الجماهير العريضه وبدؤ يحنون للماضي رغم عنفه وقمعه لان البديل جاء ليس باقل عنف وبدون انجازات ملموسه وخاصه للطبقات المسحوقه الذين استبشرو من الثورات خيرا وبقو مكانك عد اذا لم يكن الوضع اصبح اسوئ

  7. يقول foufoulakhdar:

    احسب ان الامة العربية في حاجة الى اعادة التربية الاجتماعية والسياسية…اما الحديث عن الربيع العربي فان العرب لم يعرفوا ربيعا بل اجبروا على الانفعال وسط عاصفة هي مجرد شباك لايهامهم بانهم على درب الربيع في الوقت الذي سيق بهم الى اتون الجحيم من حيث لا حتسبون….او هكذا اتصور الامر.

  8. يقول عبدربه خطاب:

    المستبدّ مختبئ فينا !! نعم هذا هو سر فشلنا وسبب هزائمنا المتكررة وتخلفنا المريع عن ركب الحضارة !! انه ينموا فينا منذ اليوم الأول في حياة كل منا !! وحتى نقضي على هذا الشبطان لابد من تغيير البيئة والواقع بحيث لاتصبح ملائمة ابدا لوجوده اصلا!! لومن هنا لا سبيل للخلاص من هذا المستبد الا ياقتلاع عوامل حياته من الجذور !! هذه العوامل تستمد قوتها من ارث فكري ممسوخ ومن تفسيرات غاية في التخلف والسطحية لمبادئ ديننا السمحة.

  9. يقول حسين المغربي:

    التربية اولا واخيرا ’التربية سبيلنا الى بناء مجتمع افضل تربية تستلهم موروثنا الديني والثقافي في تناغم مع حاضرنا المتحول والمتسارع مع الحفاظ على خصائصنا الذاتية ,مع ايمان عميق بالتغيير السلمي وانخراط فعلي لكل فئات المجتمع دون تمييز او اقصاء في رغبة عارمة لتحقيق الافضل لوطن هو الوعاء الذي يجمعنا مهما فرقتنا الاهواء والاديولوجيات والاديان ونقطة ارتكازنا لتحقيق الاحسن

  10. يقول علي:

    في مجتمعاتنا هل تستطيع مناقشة أمور الدين علانية وبصراحة ودون ضوابط؟ هل تستطيع مناقشة بعض العادات والتقاليد البالية واتقادها دون أن تقوم القيامة عليك؟ هل تستطيع أمرأة أن تعيش حياتها كما هي تريد لا كما يقرر كل من هب ودب؟ هل يستطيع المسلم أن يتحول الى مسيحي أو يهودي أو بوذي أو لاديني بناء على قناعته الشخصية لا لانه ولد الى عائلة من ديانة معينة وتم تلقينه الدين تلقيناً فقط؟ هل يستطيع الرجل المثلي أن يعيش حياته الخاصة كما يريد؟ اذا كانت الأجوبة لا فأعرفوا أن أسباب القمع السياسي في دولنا متعلقة تعلق أساسي بالقمع الأجتماعي الذي نعيشه ونفرضه على بعضنا البعض. عندما نبتعد عن التعصب والقمع في حياتنا الخاصة سنجد ان لا مكان للقمع في الحياة العامة في بلداننا فهل نحن حقاً مستعدين للتغير أم أننا فقط نريد العودة للوراء لتاريخ أسطوري مثالي دون أن نتذكر أو نذكر انه قمعي ايضاً بدل من أن نحاول الأنضمام الى الحضارات الأنسانية الراقية؟؟؟

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية