جاءت الهبّة السودانية في وقت كان «النظام العربي» قد بدأ فيه بالتسليم بنهاية موجة الربيع العربي، وكانت زيارة الرئيس عمر البشير لنظيره السوري بشار الأسد في 16 كانون الأول/ديسمبر 2018 تعبيراً فاضحاً عن رغبة هذه المنظومة في التطبيع مع أكثر رموز الطغيان العربيّ وحشيّة رغم التداعيات المهولة لقرار النظام السوري الوقوف ضد التغيير، ورغم أبواب المأساة المفتوحة على مصاريعها، ورغم امحاء السيادة الوطنية والاحتلالات الأجنبية، ورغم ملايين النازحين واللاجئين المنتشرين في دول الإقليم والعالم.
كانت الشخصيّة الزائرة أمراً لافتاً في هذا الموضوع أيضاً، وكذلك التوقيت.
فالبشير، كما هو معلوم، جاء إلى الحكم عام 1989 بانقلاب عسكري على الحكومة الديمقراطية المنتخبة التي كان يرأسها الصادق المهدي، مسنوداً من الحركة الإسلامية التي كان يرأسها المفكر المعروف حسن الترابي، ورغم أنه انقلب بعدها على الزعيم الإسلامي عام 1999 فإنه حافظ أيديولوجياً على فكرة ارتباط حكمه بـ«المشروع الإسلامي»، وبالتالي فإن زيارته للأسد (الذي بنى سرديّته الكبرى على «علمانية» نظامه وخصومته الأيديولوجية الوجودية مع الإسلاميين) كانت خاتمة مناسبة منطوقها الأساسي هو أن ما يجمع الأنظمة العربية ليس الأيديولوجيات بل العداء للتغيير، وأنها منفتحة على التنازلات في ما يخص الأيديولوجيا أو السيادة بين بعضها البعض (ومع الدول الأقوى منها كروسيا وأمريكا)، ولكنّها لا تقبل أبداً أن تقوم بأي تنازل لشعوبها!
أما أهمّية توقيت زيارة البشير للأسد فلأنها تزامنت عمليّاً مع بدء الانتفاضة الشعبية السودانية وبذلك حقّقت عكس المطلوب منها بالضبط.
قام الروس باستغلال زيارة البشير طالباً العون منهم وخصّصوا له طائرة شحن نقلته على جناح السرعة إلى حليفهم في دمشق ليكون أول زعيم عربيّ يفكّ العزلة عن الأسد.
بفعلته تلك، أضاف البشير، المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية، سمعة جديدة «شائنة»، وهي أنه الزعيم العربيّ الذي دعا لقتل الأسد وكان أول من زاره منهم. بعد ذلك كله عاد البشير إلى بلاده ليفاجأ بهبّة شعبيّة تقول له، وللرئيس الذي زاره، أن الثورات العربية لا يمكن أن تنتهي لأنها جواب على تسلّط هؤلاء الرؤساء واستحكامهم بسدّة الحكم، وليست لأن هذا «علماني» وذاك «إسلامي».
لقد ثار السودانيون لأن نظم الاستبداد تصرف موارد البلاد على أجهزتها العسكرية والأمنية بدل أن تصرفها على التنمية، فتجعل الشعب، بالضرورة، على طرف نقيض مع النظام، وتحوّل أجهزته إلى عدوّ وجوديّ للناس وهي تزعم أن وجودها للدفاع عنهم، وهذا ما يجعل الاحتجاجات الشعبية أمراً طبيعياً على قرارات رفع الدعم الحكومي على المحروقات، وعلى ارتفاع مستوى الفقر وانخفاض مستوى الدخل، وحين يمنع النظام تداول السلطة فإنه عمليّاً يمنع أي أمل للناس بحصول تغيير على هذه الصعد.
بلغت فترة حكم البشير، حتى الآن، 30 سنة، وبهذا يصبح الرئيس الأطول حكماً في المنطقة العربية من الذين حكموا بانقلاب، وحين يواجه الاحتجاجات عليه بالقول إن الرئيس لا يتغيّر بالتظاهرات أو بدعوات الواتساب وفيسبوك بل بالانتخابات فإنه لا يفعل غير أن يسخر من الناس ومن نفسه أيضاً، فبإرسائها أسس الدكتاتورية والاستبداد وضعت الأنظمة العربية قانوناً واحداً للتغيير: الانقلاب العسكري (كما جاء البشير)، أو الثورات.
أما التهديد بأحوال سوريا واليمن وليبيا فيجب أن يوجّه إلى الزعماء وليس للشعوب فأيهما أكثر منطقيّة ومعنى: رفض التغيير والانتهاء بتدمير البلدان والشعوب، أم القبول به، كما حصل في أغلب دول العالم، من بلدان أوروبا الشرقية التي خرجت من الستار الحديدي، إلى بلدان آسيا التي كان بعضها، ككوريا الشمالية، أقل تطوّراً من مصر وسوريا الخمسينيات، وأرمينيا التي فرضت فيها الجماهير تغييراً سياسياً جاء بصحافيّ إلى الرئاسة، وكثير من بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا؟
هبّة السودانيين هي درس كبير للشعوب والأنظمة العربية ومن هنا تأتي أهميتها.
الامر ليس بتلك البساطة فان لم تكن هناك قيادات حقيقية لمن في الشارع السوداني فستفلت الامور او ستفشل فالثورة شيء والانتفاضة شيء اخر والسودان الان بينهما فان انتظموا تحت قيادة لها شعاراتها واهدافها الواضضحة لن يستطيع العسكر مهما يفعلون اييقافها