لكلّ من الشعر والرسم لغته، ولكلّ عالمه المميّز. فكيف لهما إذن أن ينضمّا ويندمجا؟ فإذا سوّغنا أنّ هذا بإمكانهما، فأين موقعه: عمل الشاعر أم عمل الرسّام؟ بل هل يمكن أن نعقد حوارا بين هذين الفنّين أو التعبيرين؟ ونحن لسنا إزاء نبتة مثل القنّب تُصنع من أليافها حبال وأكياس، أو تكرّ خيوط هذا في ذاك وتنحلّ، فنقول هو ذا عالم جديد حيث الفنّ (بألف التاج) ليس سوى كيانٍ واحد لا يتجزّأ. في هذا السياق قد يصعب أن لا نتذكّر روني شار، سواء في شعره أو في كتاباته عن الرسم. وشار في تقديري، وقد يكون أدنى شهرة من أراغون وإلوار وبروتون، هو الشاعر حقّا. وقد استمعت إلى محمود درويش يقول شيئا كهذا، وهو يعتبره الأقرب إليه من بين شعراء المقاومة الفرنسيّة؛ وأظنّه أثبت ذلك في أحد حواراته. وهو الشاعر الذي يبني الصورة على نحو ما يستخدم الرّسام “الدّخلة” أي مزج الألوان وتخليطها، ليأخذ منها لونا آخر.
من ذلك القصيدة التي كتبها بمناسبة معرض جورج براك: تحت كوّة الزجاجيّات (المرسومة)، وهي مقدّمة للكاتلوغ الموسوم بـ”خلف المرآة”. ولعلّ وقفة عجلى على النصّ أن توضّح لنا هذا الحوار المعقود بين الشاعر والرسّام، حيث الثاني “يجري بعض الضوء” في لوحته؛ والأوّل يماثله بـ”حقيقة” ما. والأمر هنا أقرب إلى نوع من التمثّل ينهض به الفكر كشفا عن التشابه القائم بين الظواهر المتماثلة، أو الانتقال من المختلف إلى المشابه. ويسأل الشاعر الرسّام: “كيف تفعل براك؟”. ويجيب الرسّام “باللمس” وهو طريقة رسم اللون المقصود على اللوحة. وبواسطة الريشة تنبثق الحقيقة من الملموس. ولكنّ الشاعر منصرف إلى ناحية أخرى، إلى نكهة العمل الفنّي؛ وهو يدرك أنّ الدوافع تستثير العين التي ترصدها وهي تقهرها في الآن ذاته، ومع ذلك تستبدّ به الرغبة في أن يفهم كيف يخلق الرسّام وينشئ هذا الشيء الحيّ الحقيقي. والجواب غير المتوقّع: “كلّ ما أفعله هو أن أسموَ إلى ظلمتها السحيقة، وأستثير رغبتها في الضوء، وفي استطلاع الظلّ”. وقد تكون هذه العبارات ذات الشعريّة العالية المحسوبة، وغيرها ممّا أسوقه لاحقا، للشاعر؛ بالرغم من أنّها موضوعة بين علامتي تنصيص بما يجعلها تنضوي إلى الخطاب المنقول. ومع ذلك فنحن نتقبّلها، فالمقام في السياق الذي نحن به، مقام اتّحاد بين القصيدة واللوحة، بين الشاعر والرسّام؛ أو أنّ هذا ذاك، وذاك هذا؛ أو هي خبرة ذاتيّة، أوهي صورة أخرى لما قاله بول كلي في زيارته إلى القيروان عام 1914 وكان مأخوذا بألوانها:” أنا واللون شيء واحد، أنا رسّام”. فليس بالمستغرب إذن أن تتسرّب لغة الشاعر إلى كلام الرسّام، وتتلبّس به. ويضيف الرسّام: “ما يهمّ هو أن نعقد حبّا جديدا، مصدره كائنات لا تزال حتى الآن مختلفة.” وهذا مسعى الشاعر مثلما هو مسعى الرسّام. والشاعر نفسه يعترف في إيجاز خاطف بأنّ التنافذ بينهما أو التأثير المتبادل قد تمّ، وأنّ كلّ شيء يمتثل سلسا للرسّام وكأنّه ينصاع لوحي الوجدان؛ ويتقبّل كلّ ما يقوله: “أنا ألمح القطيع كلّه ينقاد لك”. ومع ذلك فإنّ الرسّام يضع كلّ شيء موضع سؤال، وهو يقول لصاحبه: “ثبْ إلى رشدك. شعوري هو شعورها [الكائنات]. نحن نتّفق في الإفراط كما نتّفق في حسن التدبير. والحرّيّة ينبغي أن تتجلّى في كلّ مكان”. الحريّة هي الدليل الأصلي لكلّ فن أو هي “أمّ الفنون”. والحقّ أنّ قارئ روني شار العارف بكلّ مدوّنته، يدرك أنّ الشاعر هو الذي يتكلّم خلسة؛ أو هو يعير الرسّام صوته. قد نستخلص من ذلك أنّ للاثنين رؤية متجانسة للعالم، خاصّة أنّ كلاّ منهما منجذب إلى عمل صاحبه، أو يسمع فيه رجع صداه، في ما يشبه الترديد في الموسيقى؛ وإنْ في فنّ مختلف على ما جرى عليه تصنيف الفنون. لكن ليس بالمستغرب أن نلحق الرسم بالشعر، والعين بالصوت؛ وهما اللذان يتحدّران من أرومة واحدة هي الكتابة (الخطّ). بل يمكن القول إنّهما ينضويان إلى جنس واحد، ويومئان إلى ارتباط متين بين الكلمة والعين. ومع ذلك يبقى السؤال قائما، فإذا كانت الأعمال الفنيّة من شعر ورسم، تتمثّل الشيء نفسه؛ أفلا يعني ذلك أنّ كلّا منهما يتمخّض عن قرينه، وأنّ بميسورنا أن نستخدم أيّا منهما لتفسير الآخر؟ ومن ثمّة نتعلّم شيئا فشيئا اللغة المشتركة التي ابتكراها. يقول الشاعر: “ينبغي أن نتصوّر دون انقطاع أنّه ليس ثمّة سرّ بين الحياة الحقيقيّة والأشياء التي تكوّنها. إنّما هناك أكثر من غياب طبيعيّ، ومن رفض، ومن سرّ؛ نحن لا ندرك للوهلة الأولى، ما ينطوي عليه من فكر ثاقب”. فليس بالمستغرب إذًا أن نرى في قصائد شار صورة من “حجرِ رشيد”، إذ هي تفسّر لوحات براك؛ والعكس بالعكس، أو أن نرى في هذه وفي تلك ما ينقص الأخضر ليكون شجرة؛ حيث الحياة محكومة بحريّة لا حدّ لها ولا رادّ. وكانت مجلّة “كرّاسات الفنّ” عام 1951 خير من تمثّل هذا الاتحاد بين الرسم والشعر، حتى أنّ شار لم يجد بدّا من الاعتذار لبراك، ويقول له: “عزيزي براك أعتذر لك، لأنّي بلا شكّ أسأت سرقتك، أو سرقتك بشطط. آثارك كلّ مكتمل، وما يوافقني أمامها، هو الفرحة، والانفعال أو بعبارة أدقّ صمت الابتهاج الداخلي؛ ذاك الذي تؤاخذه العيون خفية. ولكن في اختتامي لها، انبثق لي صوت الفصّال [أداة تفصل بين قسمين]… لوحة الشاعر، هي ذي كلمات، وسطور هي لها بالمناسبة. على أنّك تتحمّل بعض المسؤوليّة، لوحة الرسّام، تغدو لوحة الشاعر”. بل نحن نحار إزاء هذا الاتحاد الوثيق، فهل القصيدة هي التي تدور حول آثار براك، أم هل هي آثار براك تدور حول قصيدة شار؟ وقد لا نملك إلّا أن نفترض على الفنّين افتراضاتنا، وخاصّة كلّما تعلّق الأمر باللون وهو مكوّن لا يخفى في شعر شار. ونعني اللون الذي لا مصدر له سوى غيابه، أو لنقل من الأسود، وانصهار الأوان، وصولا إلى الأبيض وهو اكتمال وفراغ مستعاد.
ليس المقصود إذن من هذا الاتحاد بين الفنّين، أن يبلغ الشاعر أو الرسّام بالصورة شكلا من التماثل أو المحاكاة، وإنّما العثور على منطقة تتجاور فيها القصيدة واللوحة؛ أو يتلبّس بعضها ببعض.
والصورة في هذه أو في تلك، سيرورة. ومثلما لا تتجلّى الأبديّة إلاّ ضمن الصيرورة، ولا يتبدّى مشهد طبيعيّ، إلاّ في حركته، فإنّ الشعر يتجلّى في الرسم؛ والعكس بالعكس، أو نبتة هذا في بذرة ذاك؛ وبذرة هذا في نبتة ذاك. ولنلاحظ كيف أنّ غير المألوف في الشعر يغدو مألوفا في الرسم، وكيف أنّ المألوف في الأوّل يغدو غير مألوف في قرينه. والشاعر شأنه شأن الرسّام لا يملي على المادّة شكلا بعينه يتكرّر في كلّ صورة. فالقصيدة اللوحة أو اللوحة القصيدة تنطوي على تركيبة انفلات تجعلها تتوارى حتّى على تشكّلها الخاصّ. وليس لنا من تفسير لهذه السيرورة- الصّيرورة، سوى الإيقاع، وتحديدا إيقاع اللون و إيقاع الصورة من حيث هو “حضور” يقع، وليس بوزن منتظما ولا هو زمن مجسّد” أو “متحيّز” في موضع من النصّ أو من اللوحة دون آخر، حتّى يمكن القول إنّه يتكرّر أو يتعاود؛ ومن ثمّ يتسنّى لنا إدراكه. بل هو ينضوي إلى إحساس يسبق فعل الإدراك. ومن هذا المأتى نقول “إنّ الفنّ هو حقيقة المحسوس، لأنّ الإيقاع هو حقيقة الإحساس.”
هل يعني ذلك أنّ القصيدة اللوحة هي “القصيدة الموضوعيّة”؟ تلك التي كان يحلم بها رامبو أو مالارميه أو السّرياليّون عامّة، حيث المبادرة للكلمة التي تنظر وتتكلّم وتسمع. قد يكون الأمر كذلك حيث الذات محصّلة “أنا” أخرى غير تلك التي يعيشها الشاعر في واقعه. فثمّة مسافة بين الشاعر وخطابه، وكأنّ صوت الشاعر صوت ثانٍ، أو هو في حالة حلم فاعل؛ إذ يترك للمتخيّل أن يفعل فعله في الكلمات وهي تتدافع وتتجاذب، أو هي تنفي ذاتها في فعل خلقها؛ أو تتكلّم على إثر ما تقوله اللّغة بصوت خفيض أو اللوحة بصمت أقلّ أو أكثر.
لكأنّي أنظر إلى صورتي في المرآة وأتملاّها، وهي تنظر إليّ ولا تراني. مزيج من شفيف العين وعتمتها. لكأنّي وأنا أقرأ هذه القصائد أتملّى الميناء في ساعات الصباح الأولى. أرى مراكب وزوارق صغيرة بألوان رماديّة مبلولة. أقول هي “هنا” مثلما هي “هناك” مثلما هي “هنالك”. أعني “وجودها في الكون” و”وجودها في كونها الخاصّ”.
ذلك هو بيت الشعر الذي تسكن فيه الشعريّة شعريّة اللوحة وشعريّة القصيدة، وتسكن إليه.
* كاتب تونسي
الموهبة اي موهبة هي منحة الهية والشعر والرسم هما هبتان متداخلتان قد يحملهما الانسان نفسه ثم تتغلب احداهما على الاخرى شخصيا احتفظ لشاعر العمر بدفتر او كراس كما يسمونه في الاقطار العربية في هذا الدفتر رسم الشاعر بدقة متناهية اكثر من عشرين صورة وهو في الرابعة عشرة كما احتفظ له بدفتر اخر كتب فيه قصائده الاولى وهو في نفس العمر ومع تقدمه في العمر تغلبت عنده موهبة الشعر وهو دون ذلك في كتاب اصدرته احدى دور النشر عن حياته …لكنني شخصيا ارى ان اللوحة لغة عالمية يفهمها من كان في القطب الشمالي او من كان على خط الاستواء اما القصيدة فالمطلوب لقرائتها ان تكون ملما باللغة التي كتبت فيها …اظنني اطلت لكم تحياتي (ملاحظة لااعرف كيف اكتبها على جدار الصحيفة )اتمنى ان تنقل الى هناك ) وشكر
شكرا للأستاذة الكاتبة ثبات على هذه الاطلالة الرشيقة. وأنا أقدر أن قصائد غير قليلة لسامي مهدي يمكن أن تقرأ في علاقتها بالرسم أو باللوحة.
أشعربالأثم حينما لا أشارك بكلمات متواضعة ؛ كلماتك الساميّة ؛ أيّها الكاتب الطود الرفيع المقام. منذ أيام الشباب وأرى أنّ ثلاثة فنون هي الأساس لكلّ أمة جديرة بالحضارة : الموسيقى والرسم والسينما.فمن الموسيقى يأتي سلطان الرّوح ؛ ومن لوحة الرسم تأتي أعراف الريح ومن السينما يأتي الجمال العبقريّ القداح.وإذا اجتمعت الثلاثة بتناسق وتوازن ؛ سيأتي الأدب والفنّ برسائل من بدوح.وقيل إنّ ( بدوح ) هوالملاك المسؤول عن نقل رسائل الأرض إلى السّماء وبالعكس. وليس كالشعرهيولي جمع الأدب والفنّ في قلادة على صدرحمامة ذات هديل ونوح.
شكرا للدكتور جمال الذي يغني هذه المقالات بآرائه العميقة وفكره الثاقب. تحيّاتي