ما بعد الصهيونية وما قبل الكاهانية: ارتداد حلقات السلسلة

حجم الخط
1

قد يكون العمل الأكثر إحاطة بالتاريخ الفعلي للحاخام الإرهابي الأمريكي الإسرائيلي مئير كاهانا (1932-1990) هو كتاب روبرت فردمان «الحاخام مئير كاهانا: من عميل الـFBI إلى عضو الكنيست» الذي صدر بالإنكليزية، عن منشورات لورنس هيل في نيويورك؛ وليس لأنه يرصد تحّولات الحاخام، وخاصة في تغطية الجوانب ذات الصلة بلقب «النبيّ الزائف» الذي سيشتهر به، فحسب؛ بل كذلك لأنّ اقتفاء مسارات حياة كاهانا كانت تعكس، في كثير وليس في قليل، تقلبات التطرّف والاعتدال والوسطية والتديّن والليبرالية، في قلب شرائح القيادات اليهودية في الولايات المتحدة، التقليدية منها أو «الأرثوذكسية» أو المتشددة أو الصهيونية داخل هذه التيارات أو من حولها…
انقضت 32 سنة على ذلك الكتاب، و54 سنة على تأسيس «رابطة الدفاع اليهودي» التي أطلقها كاهانا في نيويورك، و74 سنة على قيام الكيان الصهيوني؛ وثمة الكثير، اليومي السياسي والاجتماعي والعسكري والأمني والاستيطاني والعنصري، الذي يحثّ على استعادة الحاخام الإرهابي، بحيث يبدو صدور كتاب جديد عنه بمثابة إقرار ببقائه في قلب المشاهد المختلفة التي تصنع دولة الاحتلال الراهنة، من جهة أولى؛ واستئناف، من جهة ثانية، وأياً كانت رصانة الأبحاث أو ضحالتها، لذلك الحضور الدائم للشعار الشهير الذي يعتنقه أتباع الحاخام: كاهانا حيّ! بهذا المعنى يصحّ الالتفات إلى كتاب شاؤل ماغيد «مئير كاهانا: الحياة العامة والفكر السياسي ليهودي أمريكي راديكالي» الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات جامعة برنستون؛ وإذا لم يكن اغتيال الإعلامية الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة أحدث الأدلة الحيّة على الترجمة الإسرائيلية لأفكار الحاخام، على أصعدة التربية العسكرية الفاشية في قلب مؤسسة جيش الاحتلال؛ فإنّ استقالة عضو في الكنيست الإسرائيلي من الائتلاف الحاكم الراهن بسبب إدخال خبز مصنوع من الخميرة إلى المستشفيات خلال عيد الفصح اليهودي، سبب صارخ لتأكيد ثبات الكاهانية في المستوى الفقهي التلمودي المتشدد. صحيح أنّ ماغيد يجهد، على امتداد ستة فصول و276 صفحة، لإعادة تموضع الحاخام الإرهابي ضمن سياقات أمريكية في المقام الأوّل، بحيث تبدو راديكالية كاهانا أقرب إلى مظهر تشدّد منبثق عن حصيلة تتجاذبها تيارات مختلفة كما سلف القول، داخل الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة؛ إلا أنّ الفصول ذاتها لا تفلح، البتة، في التعمية على حقيقة العنصر الأكثر فاعلية في تنشئة ذلك التشدد وإذكاء نيرانه، أي سلسلة الخلاصات المرتبطة بدولة الاحتلال ومآلات الصهيونية المعاصرة التي يحلو للبعض أن يسبغ عليها صفة الـ»ما بعد» أيضاً، تماماً على هدي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. وإذا كان كاهانا قد تربّى فقهياً في كنف مدرسة «مير يشيفا» المستوردة إلى بروكلين من روسيا، وتشرّب بأفكار الحاخام أبراهام كالمانوفيتز الآتي من ليتوانيا وروسيا البيضاء؛ فإنّ انضمامه إلى حركة الشبيبة الصهيونية «بيتار» وتأسيس «رابطة الدفاع اليهودية» وهجرته إلى دولة الاحتلال في سنة 1973، وتزعّم حركة «كاخ» الدينية المتشددة العنصرية، وفوزه بمقعد في الكنيست سنة 1984… كان قد رسّخ انضمامه بقوّة إلى المشهد السياسي والإيديولوجي والديني الإسرائيلي الداخلي، ولم يعد ثمة الكثير من الجدوى في ردّ أصوله إلى أية مشهدية راديكالية يهودية في الولايات المتحدة.

ليس عجباً أنّ الكثير من مظاهر العنصرية الأبشع والأبغض تواصل العيش والاشتداد في قلب دولة الاحتلال، عبر حلقات متعاقبة، راهنة تماماً، تتكفل بصناعة التكامل بين أطوار ما بعد الصهيونية وركائز ما قبل الكاهانية، سواء بسواء

ومع ذلك، وكي تنصف هذه السطور ما تتصف به قراءة ماغيد لعناصر المشهدية اليهودية الأمريكية، لم تنفصل تأثيرات كاهانا الإسرائيلي عن اعتمالات نشطة، كان بعضها عاصفاً أيضاً، طرأت على استقطابين متناحرين داخل صفوف يهود أمريكا عموماً، وفئة الإنتلجنسيا بينهم على نحو خاصّ: تيّار محافظ ويميني، قرأه إرفنغ كريستول (الذي سوف يتصدر تيارات «المحافظين الجدد» في أمريكا) على نحو رثائي في مقالة شهيرة سار عنوانها هكذا: «لماذا ينقلب اليهود إلى محافظين؟»؛ وتيّار يساري (اعتبر أنه جديد، بدوره) ساجل ضدّ انعزال اليهود عن اليسار الأمريكي عموماً وحركات السود على وجه التحديد، وكانت بين تعبيراته الأوضح مواقف ليون فيسلتيير الذي ساجل بحرارة ضدّ اعتبار يهود بروكلين «محاصرين مثل أخوتهم الإسرائيليين». ماغيد يتوقف عند هذين الاستقطابين، لكنه إذْ يسهب في استعراض خلاف كاهانا مع اليمين واليسار في آن معاً، وانحيازه إلى «اليهودي الجديد» مقابل أيّ «جدد» داخل الصفّ اليهودي؛ فإنه إنما يؤكد الجذور الإسرائيلية لأنساق تطرّف كاهانا، أياً كانت أهدافها.
وعلى سبيل مبدأ الإنصاف ذاته، الأرجح أنّ ماغيد يجنّب كتابه مغبّة الخوض في ذلك اللقاء الفارق الفريد الذي أفلح كاهانا في إنجازه، أي الجمع بين «العلمانية» الصهيونية المتشددة، والنزعة الدينية المتشددة؛ ليس حول مبادئ عامة تخصّ دولة الاحتلال ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاستيطانية والفقهية المختلفة، بل حول عتبة بالغة الخطورة كسرت أحد أكبر المحرّمات: محبّة اليهودي لأخيه اليهودي، كائناً مّنْ كان. لقد دعا كاهانا إلى مجابهة شاملة لا تُبقي ولا تذر مع «اليهود الهيللينيين» وكان يقصد أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلى التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وفي كتابه الأشهر «أربعون عاماً» 1980، كتب التالي: «هذه بلاد تنغل بالهيللينية، وبالغوييم ممّن لا يجمعهم بالدين سوى النطق بالعبرية (…) وحين انفصلت اليهودية عن الصهيونية، باتت هذه الأخيرة مجرد شكل من النزعة القومية الكريهة». ولكنّ الحاخام لم يتلكأ في الحديث عن قتل اليهودي الهيلليني، فكتب: «إنه هذا الجسم الغريب، هذا الوباء العضال لثقافة أجنبية تنخر في قيمنا ومفاهيمنا، هذا هو الداء الذي يتوجب استئصاله بكلّ الوسائل.
هؤلاء يهود ولدوا يهوداً بالمصادفة فقط، وهم مرضى انفصام الشخصية واغتراب الهوية. والحقّ أنهم هم، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، مَنْ يمثلون الخطر المحدق بالدولة اليهودية وبشعب الله المختار».
وعند هذا المنعطف من تفكيره كان الحاخام، وقد ارتدى مسوح نبيّ تلمودي افتراضي، على عجلة من أمره لأنّ ما تبقى من وقت، في حساباته، لم يعد يسمح بالمزيد من التردد: «أربعون عاماً فقط! هذه هي الحصة الزمنية التي أعطانا إياها الربّ قبل أن يُنزل بنا عقابه الصارم، والعدّ التنازلي قد بدأ بالفعل، ولم نعد في طور المنفى أو في حقبة انتظار هدوء العاصفة». فإذا أدّى الشعب الإسرائيلي واجباته، وخاض الامتحان بنجاح، فالخلاص سيأتي دون كوارث أو أزمات؛ أمّا إذا واصل خضوعه للهيللينية ولليهودية المولودة بالمصادفة المحضة، فإنّ العاقبة ستكون وخيمة رهيبة، وغضب الرب سيكون شاملاً ماحقاً… مطلوب، إذن، أكثر من مستوى واحد للترابط بين حلقات ما بعد الصهيونية وحلقات ما قبل الكاهانية، داخل السلسلة والواحدة التي عبّر عنها الحاخام الإرهابي على هذا النحو: «ولدت إسرائيل لأنها أصلاً لم تتوقف عن الولادة. إسرائيل استردت الحياة لأنها أصلاً لم تمت أبداً. كانت دولة يهودية أيام يشوع، وكانت دولة يهودية أيام الفراعنة. هل كان تيودور هرتزل هو مؤسس الصهيونية؟ كلا، فالتأسيس بدأ في يوم مسير اليهود نحو المنفى».
حلقات ما قبل الكاهانية لم تكن تقتصر على الإمعان في تأثيم ما بعد الصهيونية، ووصمها بالعار الهيلليني، بل ذهبت إلى تصنيفات قصوى مثل رفض تسمية «العرب» مثلاً، وتفضيل مسميات مثل «بني إسماعيل» أو «الفراعنة»؛ الامر الذي قاده إلى طراز عجيب من إدانة «العلمانية الصهيونية» و«الأرثوذكسية اليهودية» في آن معاً. وليس عجباً أنّ الكثير من مظاهر العنصرية الأبشع والأبغض تواصل العيش والاشتداد في قلب دولة الاحتلال، عبر حلقات متعاقبة، راهنة تماماً، تتكفل بصناعة التكامل بين ما بعد الصهيونية وما قبل الكاهانية، سواء بسواء.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أليصابات خوري - كندا:

    بالنسبة إلى العبارة التصديرية: «وليس عجباً أنّ الكثير من مظاهر العنصرية الأبشع والأبغض تواصل العيش والاشتداد في قلب دولة الاحتلال، عبر حلقات متعاقبة، راهنة تماماً، تتكفل بصناعة التكامل بين ما بعد الصهيونية وما قبل الكاهانية، سواء بسواء» اه
    نتفهّم حساسية الموضوع جيدا، أستاذ صبحي حديدي، ليس هناك أمقت وأبغض من الممارسة العنصرية أينما تواجدت! ولكن، كما قال الأستاذ جلبير الأشقر في تقريره الأخير، لندرك أن بيتنا الزجاجي لا يسمح لنا بأن نراشق الآخرين أيا كانوا (يهودا أم غير يهود) بالحجارة، بل علينا قبل ذلك أن نكافح العنصرية المزروعة في أنفسنا وكره الأجانب المتغلغل في ديارنا.

إشترك في قائمتنا البريدية