برزت، أثناء تتويج المنتخب الأرجنتيني بكأس العالم، صورتان أو علامتان لافتتان بشدة للانتباه: العباءة العربية التي ارتداها ليونيل ميسي وهو يحمل الكأس؛ والحركة البذيئة، التي قام بها إيميليانو مارتينيز حارس المنتخب الأرجنتيني، باستعمال جائزة «أفضل حارس» التي نالها. صنعت هاتان العلامتان «التريند» على وسائل الإعلام ومواقع التواصل بسرعة، وربما ستصبحان منسيتين ومتجاوزتين إلى حد ما في وقت نشر هذه المقالة، لأن التريند عابر وسريع بطبعه.
ورغم أنها علامتان للنسيان من منظور التريند، إلا أنهما تمتلكان أهمية تاريخية ما. مشهد ميسي بالعباءة العربية فوق القميص الأرجنتيني سيبقى للأجيال القادمة من المهتمين بكرة القدم، وبدرجة أقل ستظل صورة مارتينيز متداولة بين الشبّان والمراهقين. ما يدفع كثيرين إلى نقاش منفعل للصورتين، يعيد تدوير قضايا لطالما أثيرت في العقود الماضية: صورة العرب من منظور الغرب «الاستشراقي»؛ والذكورية واستيهاماتها القضيبية.
ربما كان استخدام تعبير «إعادة تدوير» هنا أكثر دقة من الحديث عن «إعادة إنتاج» لإن إعادة الإنتاج تعني ابتكار قيم جديدة، بناء على قاعدة إنتاجية أو ثقافية يتم تجديدها وتطويرها باستمرار، ما يعيد صياغة العالم نفسه، وقواه الحيّة؛ أما إعادة التدوير فمفهوم أضيق، يعني أساساً محاولة إرجاع ما تم استهلاكه، بمادته نفسها، إلى التداول، كي لا يبقى مجرد نفايات مُهدرة، تسبّب التلوّث. وهو أقرب للطريقة التي تتم بها إثارة القضايا مع كل تريند. إذ يتم دائماً تصدير العبارات والمواقف نفسها، المنتمية لمنظورات باتت قديمة، دون معالجة كافية لتعقيد الظواهر ودلالاتها المتعددة. يمكن مثلاً نشر اقتباسات مترجمة من الإعلام الألماني، فيها استنكار غير لطيف لصورة ميسي الأخيرة، لكنّ العرب لم يعودوا ضحايا للاستشراق الألماني (وربما لم يكونوا كذلك في يوم من الأيام) والحكومة الألمانية تحتاجهم بشدة في ملفات الطاقة والاقتصاد والحرب المستجدّة في أوروبا، ويمكن لدى متابعة أدق للإعلام في ذلك البلد، رصد مواقف وردود أفعال شديدة التنوّع، لا تتفق ببساطة مع العُقَد حول «الرجل الأبيض». كذلك فإن تصرّف مارتينيز لن يُنتج بذاته بنى ذكورية قاهرة للإناث، وسيبقى الرجال والنساء يقومون بإيماءات بذيئة دائماً، وضمن كل الثقافات، رغم كل محاولات تطهير اللغة والسلوكيات. يصعُب بالتأكيد ضبط كل قول وردة فعل وحركة ضمن قوالب بلاستيكية، أما السعي لإعادة تدوير مقولات حول نقد الاستشراق والذكورية، دون «إعادة إنتاجها» بما يتسق مع التطورات العالمية، فقد لا يكون ذا جدوى كبيرة، أو ربما يكون حتى مسبباً لمزيد من «التلوّث» الفكري. الأمر الذي يطرح سؤالين مهمين: كيف يمكن التعامل مع عالم، تزداد أزماته كارثية، بمنطق التريند؟ وهل عمليات إعادة التدوير الثقافي، المرتبطة بتعصّبات وسائل التواصل الاجتماعي، ستبقى ناجعة على المدى الطويل؟
سياسة علم الأعصاب
من الظلم اعتبار مستخدمي مواقع التواصل مُستلبين تماماً بالتريند، فعلى هامش كل قصة متداولة يوجد دائماً الساخرون من الحالة كلها، بل إن كثيراً من المساهمين النشيطين فيها يتهكّمون من أنفسهم، وما يقولونه وينشرونه. تبقى هذه السخرية جزءاً أساسياً من منطق عمل التريند، وربما تزيد من جاذبيته، إلا أنها في الوقت نفسه تدلّ على شعور بالتبرّم والتعب من السيل المُربك للعلامات اللافتة للانتباه، الذي بات يخترق حياة البشر ونفسياتهم بالعمق. قد يكون تحليل هذه الحالة مرتبطاً بعلم الأعصاب، وليس فقط بالنقد الثقافي، إذ أن مشاعر الرضا والتعويض والإشباع المؤقت، التي يثيرها التريند بشكل إدماني بين البشر، عبر تحفيز هرمونات معينة في الدماغ، مدروسة بدقّة، سواء من طرف مصممي ومبرمجي مواقع التواصل، أو من قبل نقّادهم. إلا أن النُقّاد لا يقدمون مقترحات أبعد من الانفصال عن البيئة التواصلية القائمة، وإطفاء الكومبيوترات والهواتف المحمولة، وهي مقترحات يمكن وصفها بـ»الماضوية» فمن الصعب تصوّر أن يرجع البشر إلى أساليب أقدم في التواصل والتعبير والتفكير، حتى لو أرادوا ذلك، لأن تلك الأساليب مرتبطة ببنية تحتية مُكلفة ومُتجاوزة (الأساليب القديمة للنشر والترويج والتعبير عن الأفكار) كما أنها تحتاج مجتمعاً متماسكاً، لم يعد حاضراً وموجوداً في أيامنا. بهذا المعنى يمكن القول إن كثيراً من المعارك السياسية والثقافية في زمننا تُخاض على مستوى التحفيز العصبي المباشر، الذي يجعل من طروحات، كانت في يوم من الأيام نقديّة ومهمة، مثل ما بعد الكولونيالية ودراسات الجندر، أشبه بمحاكاة ساخرة لنفسها. تصبح إعادة تدوير المقولات، في هذه الحالة، أقرب لمنطق الاستفزاز وإثارة البغض والكراهية المتبادلة، وتصير التحزبّات شديدة الوضوح والصرامة، ويُصنّف كل ما في العالم إلى أبيض وأسود: ضحايا وجلادين؛ بيض وملوّنين؛ ذكور وإناث. وكل تصنيف من هذه التصنيفات يصبح أقرب لذات ما ورائية تخترق التاريخ. من الصعب جداً اعتبار هذا «تقدّمياً» في أي معيار. في ما مضى كان المفكرون النقديون، المعارضون للاستعمار والذكورية، يعتبرون أن أساس عملهم هو تفكيك الهويات؛ إظهار مواطن الهجنة والفصام فيها؛ والتنبيه إلى التناقضات في كل خطاب ممكن عن الذات.
يشير بعض ناقدي التريند إلى أنه تحوير، أو تسطيح لقضايا حقيقية، لكنّه ليس مجرد هراء. نعم، يوجد «استعلاء غربي» و»هيمنة ذكورية» وكل ما هو مطلوب إعادة طرح «الحقيقة» بصورة أفضل مما هو سائد حالياً.
بالطبع يمكن استقصاء جذور هذا «الانحدار» في تطورات أكاديمية، حدثت في الجامعات الأمريكية ابتداء من التسعينيات، إلا أن تحوّل القسمة الهوياتية الصارمة إلى «تريند» عامي، ونمط من الثقافة الجماهيرية، مرتبط أساساً بتقدّم ما يمكن تسميته «سياسة علم الأعصاب» أي تعميم العلامات اللافتة للانتباه عبر الإعلام ومواقع التواصل، وبروز منظّمات، تعمل بالمنطق نفسه، وتدّعي أنها «غير حكومية». هنالك تململ فعلي من كل هذا، إلا أن صوته ما يزال خفيضاً أمام ضجة التريند، وإذا أراد معارضو الاستعمار والذكورية الحاليون نصرة أهدافهم فعلاً فربما عليهم أن يجدوا طريقة أذكى من إعادة تدوير مقولات قديمة بمنطق مواقع التواصل، محوّلين بذلك القديم إلى مسخ، وعاجزين عن إنتاج أي جديد.
الحقيقي والزائف
يشير بعض ناقدي التريند إلى أنه تحوير، أو تسطيح لقضايا حقيقية، لكنّه ليس مجرد هراء. نعم، يوجد «استعلاء غربي» و»هيمنة ذكورية» وكل ما هو مطلوب إعادة طرح «الحقيقة» بصورة أفضل مما هو سائد حالياً. أي أن المشكلة فعلاً بردة الفعل الغربية على عباءة ميسي، وبوقاحة مارتينيز غير المحدودة، لكن ربما يجب قول هذا باتزان أكبر وعصبية أقل. تبدو هذه النظرة أقرب لمنطق عتيق في التفكير، يُنسب عادة للماركسية، فكل قول «غير علمي» هو تشويه أيديولوجي (على مستوى البنية الفوقية) لحقيقة مادية مُثبتة (على مستوى البنية التحتية) وبالتالي يمكن دائماً استخلاص عناصر «الحقيقة» من الأسطورة والأيديولوجيا والدين. وبالمنظور نفسه فإن للتريند حقيقته، التي يجب استخلاصها والتمسّك بها.
وعلى الرغم من أن هذا الطرح لا يخلو من وجاهة، إلا أن تعيين «الحقيقي» و»الزائف» ربما يكون شديد الإشكالية، وفعلاً أيديولوجياً بدوره. والأجدى التركيز على أدوات التفكير ومواضيعه نفسها: من الصعب التوصّل إلى أفكار وتحليلات مفيدة على أساس علامات لافتة للانتباه، تم «تحريرها» من أي نسق، اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، يمكن تحديده وضبطه ودراسته بجدّية. وإذا كان ضرورياً الحديث عن «استعلاء» فالأفضل بحثه بعيداً تماماً عن العباءات والقمصان الكروية؛ أما تحليل «المجتمع الأبوي» ونقده فلن يكون بالتأكيد من خلال متابعة حركات لاعب أخرق.
خارج المصفوفة
لكنّ سؤالاً مهماً قد يطرح في هذا السياق: هل يوجد شيء خارج التريند؟ بمعنى أننا إذا عدنا إلى التفكير في العالم «الحقيقي» فهل سنتمكن حقاً من إيجاد حلول عملية، وفرضها بقوة «الواقع»؟ يُذكّر هذا السؤال بالجزء الأول من فيلم «ماتريكس» الشهير، الذي أثّر كثيراً في الثقافة الجماهيرية مطلع القرن الحالي: عندما أدرك البطل أن عالمه مجرّد وهم تصطنعه «المصفوفة» تخلّص من أسرها وصار بطلاً خارقاً. قد يكون هذا التفكير رغبوياً أكثر من اللازم، إذ أن «الواقع» غالباً نتاج لشرط تقني وسياسي وإنتاجي معيّن، هو الشرط نفسه الذي يجعل التريند سائداً في عالم اليوم. ربما كان النقد ممكناً، ويؤدي لتراكم أفكار يمكن الاستفادة منها لاحقاً، لكن التحرّك بعيداً عن «المصفوفة» قد يكون بلا معنى، ولن يجد أنصاره مستوىً أكثر صدقاً من «الواقع».
في كل الأحوال «الواقع» متغيّر بالتأكيد، وربما نشهد حالياً تفكك العالم الذي ألفناه، مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى حول العالم، التي ستعيد صياغة كل المستويات الحياتية الأساسية، بما فيها تعريفنا لذواتنا وتحديدنا لـ»الآخر». وبهذا المعنى فإن العصبيات والاستقطابات السياسية، التي أثارها مونديال قطر، قد تكون تكثيفاً أخيراً لكل «المصفوفة» التي تتزعزع الآن، وربما في المونديال المقبل سيفكر كثير من الناس ويتجاوب بأسلوب مختلف، هذا إذا ظلت لديه الرغبة والاهتمام بمتابعة كرة القدم أصلاً.
كاتب سوري
مقال عميق وثري ويتكئ على آلية لافتة في التحليل.