في الوقت الذي تحاول فيه الأنظمة العربية مداراة سوأتها بسبب صمتها غير المفهوم، فيما جرى في غزة من فظائع ومذابح وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، يقوم الغرب، الذي طالما أعطانا الدروس حول حقوق الإنسان والمساواة والعدالة، بالبحث فيما « بعد غزة »، وذلك لكي يتموضع مرة أخرى، لأنه يدرك تماما أن ما بعد هذه الحرب القذرة، ليس كما قبلها، وخصوصا أنه يشعر أن مصالحه في المنطقة أصبحت مهددة من الشعوب التي عبرت عن تفاعل ومسؤولية فاقت كل تصوراته، وبالتالي يكون له من كل ما جرى وعلى حساب دماء أهلنا في غزة بعض المكتسبات، تضاف إلى ما كان يجنيه سابقا، مع أنه يعلم تماما أن شركاءه الأمريكان لن يتركوا له وكعادتهم إلا بعض الفتافيت ودور الكومبارس…
الأحلام الاستعمارية
إن هذه الحرب القذرة، قد كشفت بما لا يدع مجالا للشك معالم وجه الغرب الحقيقي، الذي ما زالت الأحلام الاستعمارية تدغدغ مشاعره، وتتحكم في كل تصرفاته، على الرغم من كل محاولاته في إخفاء وجهه البشع بالتطور التكنولوجي والثقافة تارة، وببعض الهبات المادية والكلام المعسول حول حقوق الإنسان والديمقراطية تارة أخرى، وهو ما كان يستثمره ويجني من ورائه مكاسب لا تقدر بثمن…! ليجد نفسه فجأة في خانة اليك بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وخصوصا بعدما أعلن بشكل سافر عن تأييده للكيان الصهيوني ماديا ومعنويا، مما تسبب في حملات استنكار شعبية عالمية لم نعهدها من قبل، مما دفع بعض حكامه إلى التراجع بسرعة ظاهريا عن كثير من مواقفهم التي كانت حقدا صافيا…!
إن العالم اليوم، وحيال هذه الحرب المأساوية، والكارثة الأخلاقية والإنسانية بالدرجة الأولى، عالمان:
عالم يجرب أسلحته، وآلات دماره المختلفة، وأدوات حروبه الإلكترونية، باحثا مرة أخرى عن كيفية إعادة تركيب ما ركبوه بعد سايكس ـ بيكو، في الوقت الذي طلب فيه من جيوشه في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وضع دراسات حول رؤيتهم لما سيؤول إليه حال العالم العربي ما بعد غزة… وكيف يمكنهم التعاطي مع كل المتغيرات التي ستطرأ على المنطقة شعبيا وإنسانيا وثقافيا واقتصاديا الخ…
وكيف في استطاعتهم إعادة ضبط عقارب الساعة من جديد، والسيطرة على عقول شباب المنطقة، الذي ستكون له ردات فعل لا يعرفون كيفية التعاطي معها، والأهم من ذلك كله هو كيف سيكون بإمكانهم المحافظة على جماعتهم الجالسين على كراسي الحكم، لأن ما حدث لم يكن يوما ضمن حساباتهم ومخططاتهم وفاجأهم إلى أبعد الحدود…!
وعالم عربي قلق، مضطرب، خائف من أن تتمدد هذه الثقة بالنفس التي أبداها مقاتلو غزة إلى كل شبابه، حاصرا همه في كيفية محاصرتها بشتى الوسائل، وامتصاص ما ستفرزه هذه الحرب من معنويات، والحؤول دون تغلغلها في العقول.
وهو في وضع لا يعرف فيه كيف يتعاطى مع هذا الزلزال. عالم عربي ينتظر أغلب حكامه الجوائز لصمتهم الممجوج، ولدورهم في تثبيط الهمم… بعدما تركوا الساحة لجيوشهم الإلكترونية، ولبعض وعاظهم، لكي يقنعوا الناس بأن هذا الطوفان حوى ثغرات شرعية، وأنه كان على شباب غزة قبل طوفانهم الذي أسعد قلوب كل الشرفاء عبر العالم، أن يستشيروا علماء السلطان في ذلك، وأن يهتموا بالسنن…!
قضايا المصير
إن الغرب قاطبة ومعه الصهاينة، لم يهضموا إلى الآن كيف أن شعبا محاصرا، يراقبون كل تصرفاته ليلا ونهارا فقط، ينتصر، ويرفع إصبعه في وجوههم، بعدما أجبروه على أن لا يفكر إلا في لقمة عيشه التي بالكاد يصل إليها، وأن لا يفكر في أمته ومستقبلها وقضايا المصير… وكم كانوا ينتشون وهم يرون شباب غزة الذين يحملون أعلى المؤهلات في العلوم التطبيقية والنظرية، وهم يعبرون يوميا معبر إيريز، متوجهين نحو الأراضي المحتلة، للعمل في ورش البناء، والمطاعم، وزراعة الأراضي التي هي في الأساس أرضهم وأرض أجدادهم… فقد كانوا يظنون أنهم نجحوا حقا في خلق مجتمع العبيد، كما فعل أسيادهم الأمريكان في قرون ماضية، وهو ما أراد الإشارة إليه وزير دفاعهم حين وصفهم بعنجهية وعنصرية مقززة بـ « الحيوانات…! ».
إن الغرب اليوم يدرك أن هذه الحرب القذرة قد أعطت شباب المنطقة العربية دفعة كبيرة من الأوكسجين، والثقة بالنفس، والأمل، والمعنويات اللامحدودة… مع أنهم بذلوا كل ما بوسعهم عبر من نصبوهم على رقاب البلاد والعباد، فدمروا من خلالهم الأمل، وغرسوا اليأس في النفوس، دافعين الشباب إلى الهجرة لمن استطاع إليها سبيلا، لكي يستفيد الغرب الذي نصبهم من خبراتهم العلمية، ومن عضلاتهم في الأعمال الشاقة، أو أن يبقوا في أوطانهم في حالة موت سريري، يعيشون، ولا يعيشون..!
يأكلون ويشربون ويستهلكون منتوجات الغرب وثقافته، وما يتصدق عليهم به من مسلسلات أو أفلام وإعلام الخ… وكلها في الأساس صنعت لتدمر معنوياته، وتمرجحه ما بين إحباط وآخر. ولهذا هم مهتمون وإلى أبعد الحدود فيما « بعد غزة ».
أنظمة وطنية
إن ما حدث في غزة منذ شهر ونصف الشهر، ضخم جدا، وأكبر من أن تستوعبه أنظمتنا الحاكمة. ولو كان عندنا أنظمة وطنية حقا، وتفكر في مستقبل شعوبها وأمتها لاستثمرته، وقامت بالبناء عليه، ومنحت لهذه الحرب أهمية استراتيجية، ووضعتها ضمن أطر تستفيد منها كل الأمة في حاضرها ومستقبلها، ولأعادت بفضلها تموضعها على الساحة الدولية، ولفرضت شروطها لتكون في ذلك بداية البدايات. والأهم من ذلك في اعتقادي، إعادة النظر في الميزانيات الضخمة التي تخصصها لجيوشها وإعدادها، إذ أثبتت هذه الحرب بما لا يدع مجال للشك أن الانتصار لا يحتاج إلى أساطيل، بل يحتاج حتما إلى استبدال المساطيل. ولكن للأسف، فإن مأساة أنظمتنا اليوم تكمن في كونها لا تفكر أبعد من أنفها وكراسي الحكم…
لكن، كيف يمكن لأنظمتنا البناء على هذا الانتصار العظيم وهي لا تستطيع أن تعلن مجرد تضامنها مع الأبرياء الذين استشهدوا تحت القصف الصهيوني العبثي… وتعتبر أن مجرد تفاعلها مع ما يجري من دمار وسفك للدماء من المحرمات…! وتراقب كل ما ينشره مواطنوها على وسائل التواصل الاجتماعي حول ذلك. مركزة كل همها والغرب معها على كيفية التمكن من إعادة هذا المارد المنتصر إلى قمقمه مرة أخرى، ودفنه إلى الأبد… لأن وباء الحرية يخيفهم، ولا يمكن ضبط عقاربه والسيطرة عليه، وهنا بيت القصيد… نعم كان من الممكن البناء على كل ذلك فيما لو كانوا جادين حقا في فتح آفاق المستقبل أمام شعوبهم، ولم يشاركوا من الأساس في حصار غزة، بإيعاز من عمتهم أمريكا وربيبتها الدولة الصهيوـ استعمارية…
زلزال كبير
ختاما، إن ما حدث في غزة زلزال كبير، والزلزال لا يمكن التعاطي معه بكلام معسول، وجمل فضفاضة، وحبيبات الأسبرين…! بل لا بد من وضع دراسات جادة حول تأثيره، ومستقبل ذلك على أمتنا ومجتمعاتنا للاستفادة منه، وأن لا ننتظر من الغرب أن يتصدق علينا بمثل هذه الدراسات التي ستكون مسمومة بلا شك ومنحازة، وتحوي خطط خراب تضاف على الخراب الذي نعيش فصوله…
وعلى أنظمتنا أن تدرك أن غزة اليوم وعلى الرغم من كل الدمار والمجازر التي يندى لها جبين الإنسانية، قد انتصرت قولا وفعلا بما لا يدع مجالا للشك، وأعادت رسم الخريطة الإنسانية والمعنوية لكل شعوبنا، واقتحمت قلوب الجميع بلا استئذان، وحتى قلوب أولئك الذين يختلفون مع حكامها سياسيا وفكريا وأيديولوجيا، وإن عدم فتح الشبابيك والإطلالة عليها، سوف يعمق الشرخ بين الشعوب والأنظمة الحاكمة في بلادنا…
نعم غزة قد انتصرت، وأنظمة بلادنا لا تحب المنتصرين، والانتصار في نظرهم عيب إن لم يكن من المحرمات، وهنا الطامة الكبرى…! وهو انتصار بالاتجاه المعاكس لكل ما أراده الغرب المستعمر، المتعطش دائما لدماء أبناء أمتنا، ونهب خيراتها.
وشكل هذا الانتصار خطوات، وليس خطوة واحدة في مسيرة الألف ميل نحو التحرير، ولهذا يجب البناء عليه لو كانوا يعقلون…!
كاتب من لبنان يقيم في فرنسا