مع دخول الهدنة يومها السابع، أصبح سؤال ما بعد العدوان على غزة مطروحا بقوة على الطاولة.
نظريا، لا يمكن تصور أي سيناريو سياسي كيفما كان اتجاهه، دون وقف إطلاق النار، ولا يمكن تصور وقف إطلاق النار دون صفقة كبيرة، يكون موضوعها الرئيسي مستقبل الوضع السياسي لغزة.
نظريا ايضا، لا يمكن تصور اتجاه التفاوض دون استحضار معطيين، الأول هو أهداف كل طرف، ومدى القدرة على تحقيقها، والثاني، الأوراق التفاوضية التي يمتلكها من أجل تحقيق هذه الأهداف كلا أو جزءا.
استقراء تصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ صعقة طوفان الأقصى لم تأخذ نسقا وحدا، فقد كانت تخضع للتغيير في كل محطة، كما أن المعلن عنه لا يعكس المخفي الذي يتم تسريب جزء منه. فثمة انتقال سريع من السقف الأعلى إلى الأسفل. من التهجير إلى سيناء، إلى القضاء على حماس عسكريا وسياسيا. ومن القضاء على قدراتها العسكرية، إلى مجرد تفكيكها. كما تباينت التصريحات التي تقيم تحقق هذه الأهداف، ويهمنا منها، على وجه الخصوص تصريحات الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال، الذي زعم القضاء على الوجود العسكري لحماس في شمال غزة.
أهداف حركة حماس، منذ طوفان الأقصى لم تتغير كثيرا، فهي تريد أن ترسم واقعا سياسيا جديدا في المنطقة، يجعل من انهيار الهيبة الأمنية والعسكرية لغلاف غزة وأيضا من الحراك العسكري والسياسي في الضفة الغربية مدخلا لإعادة طرح قضية الدولة الفلسطينية، لكن بحدود أوسع، وضمانات أكبر، واعتراف دولي وإقليمي، وشروط عيش تتجاوز واقع الحصار.
واقع جهوزية الجيش الإسرائيلي، وشدة الضغط في الجبهة الداخلية على خلفية تكملة ملف التبادل ضمن صفقة شاملة، إضافة إلى الوضع الاقتصادي الإسرائيلي الذي لا يتحمل إطالة الحرب لمدة أخرى
منذ انطلاق الحرب على غزة، لم تتغير أوراق الضغط عند الكيان الصهيوني، فقد راهن على استهداف المدنيين، والمؤسسات التعليمية والخدمية والاستشفائية، وذلك لجعل شروط العيش في شمال غزة مستحيلة، واستخدم ورقة التجويع والحصار للي ذراع المقاومة وإجبارها على الخضوع لشروط الاحتلال، أما الورقة العسكرية، فلم تقدم أي نتيجة دالة على مستوى تقويض قدرات حماس العسكرية.
أوراق حماس، تبدو أكثر فاعلية، لكونها ابتداء، قدمت أداء عسكريا وسياسيا وتواصليا وإنسانيا، أقنع دول العالم بأن الحرب العسكرية التي يشنها الاحتلال لن تغير الواقع في شيء، وأن قصارى ما تفعله أنها تفاقم الوضع الإنساني، ويمكن أن تتسبب في اندلاع حرب إقليمية في المنطقة، لن تخدم مصلحة أمريكا ولا إسرائيل ولا دول المنطقة برمتها. وتبدو الورقة الأكثر فعالية هي المحتجزون والأسرى، والتي طالما صرحت حماس أنها لن تقبل ثمنا أقل من تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين لقاء استرجاع العدو لأسراه ومحتجزيه.
في الواقع، لا تقدم المقارنة النظرية التي تركز على الأهداف وأوراق الضغط سوى نظرة أولية عن ماهية التفاوض واتجاهه، فثمة إلى جانب ذلك واقع الممارسة التفاوضية، الذي انتهى لحد الآن إلى إقرار سبعة أيام من الهدنة، بشروط، تتضمن لقاء كل محتجز ثلاثة أسرى فلسطينيين من النساء والأطفال، وإدخال كم من المساعدات الإغاثية إلى كل قطاع غزة مع المحروقات التي كان الاحتلال يضع خطا أحمر عليها منذ الحرب على غزة.
تكشف هذه الممارسة التفاوضية عن شيئين مهمين، أولهما، أن التفاوض لا يهم إلا المستوى الأدنى، أي قضية المحتجزين، الذين سبقت حماس أن قالت بأنهم ضيوف عندها، وأنها ستطلق سراحهم. ومع ذلك، فقد تم تجزئتهم إلى فئتين: النساء والأطفال، حيث ركزت المرحلة الأولى عليهم، وجعلت لذلك ثمنا، بمضاعفة البدل ثلاث مرات (مع اشتراط الأقدم سنا في الأسرى الفلسطينيين)، وبرفع جزئي عن معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من خلال تمكينه من قدر مهم من المساعدات الإغاثية.
تبين هذه الممارسة التفاوضية التي انطلقت بشروط حماس، وقبلها العدو الصهيوني، أن الجولات القادمة من التفاوض، ستأخذ ثلاثة مسارات: التفاوض حول المحتجزين المدنيين من الرجال، والتفاوض على الأسرى من الجنود، ثم أخيرا التفاوض على الأسرى من الضباط ذوي الرتب العالية.
حماس مند البداية خيرت العدو الصهيوني بين صفقة شاملة، وبين تجزئة الصفقة، والوضع الحالي، يبين بأن البداية كانت بالمسارات الجزئية، لكن لا أحد يضمن استمرار هذه المقاربة، ففي أي لحظة يمكن أن تصير شاملة.
معنى ذلك، أن مطالب حماس، فيما يتعلق بالمحتجزين من الرجال، ستكون شبيهة بالمسار الأول من حيث طبيعة الثمن، مع اختلاف في المقابل العددي من جهة الأسرى الفلسطينيين، أو يتم اشتراط مواصفات معنية فيهم، حتى تتمكن حماس من استرجاع عدد أكبر منهم أو استرجاع أسراها الأمنيين والعسكريين. أما المسار الثالث والرابع، فالأرجح أن يكون الثمن، ليس فقط تبييض السجون من الأسرى الفلسطينيين، ولكن، أن تأمين وضع سياسي في غزة يحقق بعضا من أهداف حماس السياسية.
الاحتلال الإسرائيلي، لحد الآن لا يزال يهدد باستئناف الحرب مباشرة بعد توقف تمديد الهدن الإنسانية، لكن واقع الأمر، يبين بأن هذا التهديد هو جزء من تعلية السقف للإشعار بأن حماس لا تملك وحدها القدرة على فرض الأمر الواقع، وفي المقابل، فإن حماس ترسل الإشارات الدالة على أنها لا تزال بقدرة تنظيمية وقتالية في كامل الجهوزية في قطاع غزة (زمان ومكان تسليم المحتجزين والطابع الاستعراضي العسكري لهذا التسليم)، وأن قدراتها تتعدى قطاع غزة إلى الضفة الغربية وشمال القدس (العملية العسكرية في شمال القدس)، وأنها تملك الخيارات لزعزعة الأمن الداخلي الإسرائيلي، وليست فقط تهديدا لأمن إسرائيل يصدر من غزة.
أمريكا في واقع الأمر لا تريد استمرار الحرب، لأن الاعتبارات الانتخابية، تدفع إدارتها إلى إقناع الاحتلال الإسرائيلي بعدم تكرار ما فعله في شمال غزة، وأن يتجه إلى تغيير نموذج عملياته العسكرية في حال كان السيناريو هو استئناف الحرب، لكن واقع جهوزية الجيش الإسرائيلي، وشدة الضغط في الجبهة الداخلية على خلفية تكملة ملف التبادل ضمن صفقة شاملة، إضافة إلى الوضع الاقتصادي الإسرائيلي الذي لا يتحمل إطالة الحرب لمدة أخرى، والاستنزاف الأمني، الذي تمثله حماس من خلال تحريك جبهة الضفة، كل ذلك، يدفع الكيان الإسرائيلي للتفكير في تحويل التفاوض الجزئي إلى تفاوض شامل، وتأجيل الحرب بطريقة جد متدرجة، يكسب منها رئيس الوزراء الوقت، ليمر بسلام من المساءلة والملاحقة السياسية والشعبية.
التقدير، أن استئناف الحرب، بات يمثل السيناريو الأضعف في حين، صار خيار التهجير خيارا مستبعدا بواقع قوة المقاومة العسكرية، ورفض دول الجوار، وأيضا رفض المنتظم الدولي برمته.
ولذلك، لن يبقى إلا خياران اثنان، أولهما: هو خيار المستقبل، وهو حصول صفقة شاملة (أو استكمال كل المسارات الأربعة في الصفقة)، يعقبها إرساء وضع سياسي جديد، يتقرر فيه حل الدولتين، وتنال الدولة الفلسطينية المستقلة اعترافها الدولي، وأن تكون حماس جزءا من هذا الواقع، سواء بشكل منفرد أو تشاركي. وأما الثاني، هو خيار الضرورة، وهو أن تستكمل الصفقة الشاملة، مع وفق شامل لإطلاق النار، وانسحاب إسرائيلي من شمال غزة، وإبقاء الوضع على ما كان عليه قبل طوفان الأقصى، وذلك حتى تترسخ معادلة لا غالب ولا مغلوب، ويترك لكل طرف تسويق انتصاراته السياسية والعسكرية، على أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في تحريك ورقة الحل السياسي الشامل في المنطقة لتجنب حرب أخرى.