تكثر هذه الأيام الكتابات التي تتناول، النتائج المحتملة لمرض كورونا في شتى المجالات. بعضها قد يفيد القارئ، من حيث نوعية وكم المعلومات المقدمه، ولكنها في أحيان كثيرة، هي تقديرات ووجهات نظر، تعكس توجهات كاتبها، السياسية أو الأيديولوجية، فاليساري يرى أنها نهاية لزمن الرأسمالية، والليبرالي يراها تصحيحاً لمجرى الاقتصاد نحو مزيد من العولمة، وما إلى ذلك في شتى الاتجاهات.
دراسة المستقبل
الحقيقة التي لا يختلف عليها الناس، وخصوصاً المتخصصين، هو أن دراسة المستقبل، تبقى شيئا من المستحيل، وأن للتاريخ منطقه الخاص، الذي لا يعرفه، حتى من يصنع هذا التاريخ، لذلك توجب انتظار ابتعاد هذه اللحظة عنا، حتى نستطيع دراستها، حين تصبح شيئاً من الماضي. نحن ندرس الماضي ونفهمه، من خلال التاريخ، أفضل بكثير، ممن قاموا بإنجازه بزمنه.
وحدها الدراسات الاجتماعية، وهو علم حديث نسبياً، من حاول أن يتحمل هذه المسؤولية الجمة، وهي دراسة المستقبل، من خلال دراسة الحاضر، كعمل تاريخي، أو ما يُسمى تاريخ الحاضر. استطاع علم الاجتماع بكل أشكاله، بما فيه البُعد التاريخي والبُعد الفلسفي، أن يستشف متاهات المستقبل، وما يمكن عمله، من أجل بناء اجتماعي عقلاني.
من هذا المنطلق، فإن نتائج جائحة كورونا، هي في إطار علم الاجتماع أولاً، قبل أن تكون وجهة نظر لكاتب أو مفكر.
التاريخ الإنساني، يتقدم عن طريق عملية تراكمية، وليس أحداثاً متتالية، هذا التاريخ الحقيقي اليومي، هو من يحدد، نتيجة حدث ما في منطقة بالعالم. فمثلاً استقلال بنغلادش، عام 1971، جاء بعد إعصار شديد، وفياضانات عارمة، ضربت ما يُسمى زمنه، باكستان الشرقية، وما تبع ذلك من حرب بين طرفي باكستان، أدت إلى 3 ملايين قتيل، و10 ملايين مُهجر، وفي النهاية استقلال المنطقة، وإعلان دولة بنغلادش.
طبعاً لم يكن الإعصار هو السبب في الإنفصال، مع أنه كان الحُجة، وإنما عدم احترام الدولة المركزية، خصوصية شعب بنغلادش، من ناحية ثقافية ولغوية وتنموية. الإعصار بهذه الحالة، هو فقط من بلور التناقضات والتراكمات السابقة، منذ انفصال باكستان عن الهند، عام 1947.
في المقابل، فإن تسونامي جنوب شرق آسيا، نهاية القرن، أو فيضانات كاترينا بنيو أورليان الأمريكية، لم يؤديا لنتائج سياسية تذكر.
ما هي إذاً التراكمات الاجتماعية الحالية، بدول العالم المختلفة، والتي قد يؤدي وباء الكورونا، إلى بلورتها، مُحدثاً نقلة نوعية بالعملية التاريخية. سنحاول تقديم رؤوس أقلام لبعض النماذج، والتي هي أساساً، من مجال علم الاجتماع.
العمل عن بُعد
استعمال الإنترنت حالياً، اتسع جداً، وسيتطور مع تطور الجيل الخامس قريباً جداً. تقريباً كافة الشركات والمؤسسات، تستعمل الوسائل الألكترونية، في معاملاتها التجارية، ولكن العمل عن بعد، بقي بوضع جنيني بسيط، وهو يُستعمل فقط في حالات قليلة، مثل العمالة المعاقة أو ظروف خاصة.
جائحة كورونا، أظهرت مع الانتشار شبه الكامل، للعمل عن بُعد، بسبب الحجر المنزلي، أن هذه الوسيلة، قد تصبح مرجعية للعمل في المستقبل لنجاعتها وقلة كلفتها، والشيء نفسه للتعليم المدرسي أو الجامعي، وهو ما يؤدي إلى تقليل التنقل، عبر وسائل النقل الخاصة والعامة، ويُعيد توزيع ساعات العمل، بين الليل والنهار، ويُغير بشكل كبير، نوعية العلاقات الاجتماعية. كورونا إذاً تكون قد دفعت لبلورة هذه الوسيلة الجديدة، وليس إيجادها من الصفر.
تجربة العمل عن بُعد، الشاملة لكل القطاعات، ستؤدي أيضاً، إلى إعادة توزيع العمل على مستوى العالم، فالعمل عن بُعد لا يحتاج أن يكون جميع العمال، متواجدين في المنطقة أو البلد نفسه. بدون ظاهرة كورونا، قد نكون أيضاً قد سرنا في الاتجاه نفسه، ولكن بسرعة أقل، ومع معوقات أكبر، ناتجة عن معايير الربح والخسارة لكل مشروع اقتصادي.
مُعضلة البيئة
الاتفاقيات الدولية للحد من التغير البيئي وارتفاع الحرارة، بدأت مع اتفاقية كيوتو في اليابان، لعام 1997 ولكن النتائج على أرض الواقع، ظلت رهينة المصالح الاقتصادية، للدول الغنية والخلافات بين الصين والولايات المتحدة، حتى أن الرئيس ترامب، انسحب من اتفاقيات باريس لعام 2015. نحن إذاً نسير نحو تغير بيئي مخيف، بكل المقاييس، ولم يستطع السياسيون، رغم ضغط منظمات المجتمع المدني، الاتفاق على مفهوم فعال ومؤثر للحد منه.
جائحة كورونا، وما استطاع العالم، دولاً فقيرة أو غنية، من عمله ببضعة أيام أو أسابيع، للحد من انتشاره، بدون الالتفات إلى النتائج الاقتصادية، ستؤدي في رأيي، إلى بلورة العملية البيئية، في الاتجاه السليم، أي نحو اتفاق حقيقي فعال ومُلزم. ذلك بسبب انتشار فكرة مسؤولية التلوث، عن انتشار مرض الكورونا، ما كُتب وقيل من الدارسين والمختصين، عن تراجع الغابات في العالم، وما يعنيه من تقليص مساحة البيئة الطبيعية للحيوانات البرية، والتي أصبحت أقرب إلى الإنسان، واختلطت معه.
نحن سنكون إذاً، أمام القوى والمصالح، الاقتصادية نفسها لدول مثل الصين والهند، أو الولايات المتحده، مقابل بعض الدول الأخرى، ومنظمات المجتمع المدني، لكن التوازن قد يختل هذه المرة لصالح المدافعين عن البيئة، والاستغناء عن الطاقة الأحفورية (البترول والغاز والفحم) لصالح الطاقة النظيفة، وخصوصاً بعد الانهيار الكبير لأسعار النفط، مُظهراً قوة المجتمع المدني، ومقدرته لتوجيه ضربة موجعة، لغُلاة الرأسماليين الجشعين، عن طريق تخفيض الاستهلاك. نرى هنا أن المجتمع المدني، يكتشف نفسه وإمكانياته الكبيرة، لتوجيه السـياسات، وسـنها في الاتجـاه السـليم.
الحركات البديلة
ما يُسمى الحركات البديلة، هي ظاهرة اجتماعية منذ حوالي ثلاثين عاماً، لا تنتمي بشكل واضح لليمين او لليسار، ولكنها تنبع مباشرة من المجتمع. مثال ذلك، حركات الربيع العربي، والتي تُطالب باستعادة المجتمع، لحقه في تقرير السياسات التي تُهمه. الشيء نفسه، ولو بشكل أقل حدة، موجود في دول عديدة في العالم، مثل حركة بوداموس في اسبانيا، أو الحركات الاجتماعية في إيطاليا والولايات المتحدة، هذه التجمعات الجديدة، استطاعت في دول عديدة، أن تؤثر على سياسات دولها، وحتى في بعض الأحيان الوصول إلى السلطة، ولكنها بقيت في معظم الأوقات، أضعف من أن تُغير السياسات الاقتصادية بشكل فعال.
قد تتمكن بعض هذه الحركات، من التطور السريع ببعض الدول، بعد بلورة كورونا لها، أي بعد إظهار خطر السياسات الاقتصادية، المبنية فقط على الليبرالية المفرطة، وأخص بالذكر هنا، الولايات المتحدة والبرازيل بشكل خاص، هذه الدول التي استمرت حكوماتها، في إعطاء الأولوية للتبادل التجاري، بدل حياة الناس.
في منطقتنا العربية سيكون المجال مفتوحاً، نحو مزيد من الحراك الاجتماعي، المرتبط بالربيع العربي، خصوصاً بتلك الدول التي لم تتمكن، من اتباع سياسات فعالة، لاحتواء المرض، أو التقليل من نتائجه الاقتصادية على حياة الناس.
كاتب فلسطيني ومحلل سياسي مستقل