بعد انسحاب القوات الروسية من بلدة بوتشا القريبة من العاصمة كييف، كشفت السلطات الأوكرانية عن جثث 410 أشخاص قتل بعضهم مكبلي الأيدي، الأمر الذي أثار صدمة عالمية ورفع من منسوب النقمة على روسيا بوتين في مختلف بلدان العالم.
كما هو متوقع زعم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الصور المنشورة عن مجزرة بوتشا “مفبركة” ولا تعكس الحقيقة. متوقع لأن هذا التصريح هو تكرار حرفي لكل تصريحات لافروف نفسه، أو رئيسه بوتين أو دبلوماسييه الآخرين، بشأن مجازر ارتكبتها روسيا نفسها أو تابعها نظام الأسد الكيماوي في سوريا طوال السنوات السابقة من الصراع في سوريا.
لدى القيادة الروسية مدرسة في التنكر لجرائمها وجرائم توابعها تشكّل الوجه الأكثر قبحاً وتهافتاً لما يسمى بـ”ما بعد الحقيقة”. فوفقاً لهذه المنهجية تستطيع أن تسوّق ما شئت من الأكاذيب أو تكذيب الحقائق، عن طريق تكرارها بكثرة مهما كان أساسها ضعيفاً، بحيث تترك أثراً ويصدّقها قسم متفاوت الحجم من الرأي العام وسط “زحمة الحقائق” والأحداث والأخبار والفبركات التي توفرها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا.
ففي وضع كهذا تتساوى “الحقائق” المتعارضة في صحتها في أحسن الأحوال، فيختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل، فلا يمكن التمييز بينها فتكون النتيجة “ضياع الحقيقة”. أما في أسوأ الأحوال فهناك جزر منفصلة من الرأي العام، متعلقة مسبقاً بوسائل إعلام محددة لها سياسات إخبارية منضبطة، تتعاطى مع مختلف الأمور من منظور متحيز، وتنشر أكاذيب أو تكذّب وقائع وفقاً لمعايير دقيقة. بكلمات أخرى: لكل دكان إعلامي زبائن معروفين لا يشترون إلا منها.
السجل الروسي المشين، في الانتهاكات والأكاذيب معاً، يحرمنا حتى من التشكيك في احتمال فبركة حقيقية قد تقوم بها جهات أخرى ضدها، على مثال حكاية الراعي الكذّاب الذي يقع في شر أعماله
قد يمكن تفهّم الأمر، مع عدم القبول به، في شأن وسائل الإعلام، لكن منهجية ما بعد الحقيقة تتحول إلى أداة فظيعة وقاتلة في يد السياسيين وقادة الدول. وإذا كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد احتل المرتبة الأولى في عدد الأكاذيب التي روّج لها، فمن المحتمل أن سيرغي لافروف يحتل المرتبة الثانية بجدارة، متقدماً على رئيسه بوتين فقط لأن موقعه يتطلب مواجهة الاتهامات بالفظائع التي ترتكبها القوات الروسية في سوريا أو أوكرانيا في تواتر أكثر من رئيسه.
من المحتمل أن تتشكل لجان أممية محايدة للتحقيق في مجزرة بوتشا، إذا لم يتطلب الأمر قراراً من مجلس الأمن. وفي هذه الحالة ستعترض روسيا مسبقاً على أي لجنة من هذا النوع بدعوى انحيازها ضدها، وسترفض نتائج التحقيق ما لم تبرّئ الجيش الروسي من ارتكاب المجزرة. أما تشكيل لجنة تحقيق بقرار من مجلس الأمن فهو غير ممكن ما لم تضمن روسيا نتائج تحقيق تبرّئها.
السجل الروسي المشين، في الانتهاكات والأكاذيب معاً، يحرمنا حتى من التشكيك في احتمال فبركة حقيقية قد تقوم بها جهات أخرى ضدها، على مثال حكاية الراعي الكذّاب الذي يقع في شر أعماله.
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، في الكلمة التي وجهها إلى مجلس الأمن صبيحة الكشف عن مجزرة بوتشا، إنه إذا بقيت منظمة الأمم المتحدة عاجزة عن عمل شيء بشأن جرائم الحرب التي ترتكبها القوات الروسية الغازية في أوكرانيا، يمكن إلغاء المنظمة نفسها.
هذا ليس مجرد كلام عاطفي في ردة فعل غاضبة على المجزرة، بل ربما أصبحت الفكرة تدور في أذهان سياسيين عبر العالم أو في بعض المداولات بين قادة الدول. والحال أن منظمة الأمم المتحدة طالما تعرضت لانتقادات، محقة في كثير من الأحيان، بسبب بنيتها القائمة على التمييز بين دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تملك حق النقض ضد أي قرار لا تريد تمريره، وسائر دول العالم. هذه بنية مختلة تشكل بذاتها تهديداً “للأمن والسلم الدوليين” كما تزعم المنظمة ومجلس أمنها أنهما وجدا أصلاً للحفاظ عليهما. وإذا كانت العدوانية الروسية اليوم، والشلل المفهوم إزاءها في مجلس الأمن، تثير دعوات من نوع إخراج روسيا من المجلس أو طردها من المنظمة، فللولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا أيضاً سوابق تستحق طردها من المنظمة والمجلس. لكن التناقضات بين هذه الدول القوية كانت تحلّ غالباً بتفاهمات تتسق مع موازين القوى والمصالح المتشابكة، بخاصة وأن موضوعات الخلاف كانت تجري في مناطق “طرفية” لا يرى فيها أقوياء العالم بأساً في الأثمان الباهظة التي تدفعها شعوب تلك المناطق والدول. فلسطين وسوريا هي من الأمثلة القريبة التي نعرف مآسيهما الناتجة عن الصراعات والتفاهمات بين دول “الدرجة الأولى”.
أما وقد اقترف بوتين خطيئة الهجوم على دولة تعدها الولايات المتحدة وأوروبا جزءاً من الغرب، فسوف تكون انتهاكات قواته تحت المجهر، وستتعرض روسيا إلى مزيد من العقوبات والعزل، وستتصاعد الأصوات في العواصم الغربية لطردها من المنظمة الأممية، وما يتبع ذلك من انتزاع حق النقض منها في مجلس الأمن.
لا يمكن التكهن، منذ الآن، باحتمال وصول الأمور إلى هذه النقطة الحرجة بحيث يعلن عن روسيا كدولة “مارقة”. ولكن في جميع الأحوال يمكن التوقع بأن القوات الروسية ستصبح، بعد مجزرة بوتشا، مقيّدة أكثر في حركتها على الأراضي الأوكرانية ضمن حدود معينة. فقدرة لافروف على تكذيب الوقائع ربما بلغت حدودها القصوى.
٭ كاتب سوري