ما بين الانتخابات المجازية والانتخابات الحقيقية
د. عبدالوهاب الأفنديما بين الانتخابات المجازية والانتخابات الحقيقية(1) يكاد العالم كله يتواطأ بالصمت حول انتخابات البرلمان السوري التي جرت الأسبوع الماضي، بينما انشغل بانتخابات نيجيريا وفرنسا وغيرها. والسبب لا يخفي، وهو أن تسمية ما جري في سورية بالانتخابات هو من قبيل المجاز. ذلك أن فكرة الانتخاب تعتمد في جوهرها علي أن يوجد هامش من عدم الثقة في النتائج، وأن يكون هناك تنافس وفرصة اختيار للناخب. أما حين تكون المقاعد موزعة سلفاً، والمرشحون تم اختيارهم، إن لم نقل تعيينهم، وحين يمنع المعارضون من مجرد المشاركة، ولا يكون هناك أي مجال للتنافس علي كسب صوت الناخب عبر عرض البضاعة الحزبية أو الشخصية عليه، وتصبح الانتخابات مثل عدمها.(2)بالمقابل كان هناك اهتمام دولي باستفتاء مصر الأخير علي التعديلات الدستورية رغم أن الوضع في الحالين واحد. ما سمي بالاستفتاء تم طبخه وتوضيبه سلفاً، ولم يكن من المهم أن يشارك الشعب أولا يشارك. أما المجالس التشريعية المجازية بدورها فإنها لم تغير حرفاً في التعديلات بالجملة التي تعرض لها الدستور، بينما يحمد للحكومة أنها استحت وقالت ان الحضور في الاستفتاء كان 27% ولم تقل 90%. هذا مع أن المعارضة والمراقبين يجزمون بأن المشاركة لم تزد علي خمسة بالمائة. وحتي إذا صدقنا إحصاءات الحكومة فإن النتيجة هي أن حوالي 80% من الناخبين رفضوا التعديلات حين قاطعوا الانتخابات أو صوتوا بلا. ولكن الحكومة التي لم تكن تلتزم بالدستور أصلاً ولن تلتزم به وهو معدل لا تبالي. ومعها حق، لأن السكوت رضا.(3)لا بد أن نشكر للحكومة الأمريكية وبعض الجهات الغربية التي نطقت وتحفظت علي هذه المسرحية التعديلاتية. ولا شك أن البعض من سر هذا الاهتمام هو أن مصر تأخذ معونات من أمريكا وسورية لا تأخذ. ومصر عند أمريكا أهم من سورية. والإدارة الأمريكية قد ذاقت الأمرين في السابق من الحلفاء الذين يركبون رأسهم فتنهار الأنظمة علي رؤوسهم، ثم تدفع أمريكا الثمن كما حدث لها في فيتنام واثيوبيا وإيران ونيكاراغوا وغيرها. ولهذا لا تريد أن تلدغ من نفس الجحر للمرة الألف، وهي علي كل حال تخجل من بجاحة مثل هؤلاء الحلفاء وقلة اكتراثهم حتي بالتمثيل الجيد.(4)في الأسبوع الماضي انشغل العالم بالانتخابات الحقيقية، كمثل تلك التي جرت في نيجيريا يوم السبت، وكانت هذه أول مرة تشهد فيها نيجيريا انتقال السلطة من رئيس منتخب إلي آخر، إذ لم يحدث أن أمهل الانقلابيون من قبل حكومة منتخبة حتي تكمل دورتها. هذه المرة أكمل الرئيس المنتخب دورتين، ولم يتبع النصيحة العربية بتعديل الدستور حتي يصبح حاكماً مؤبداً (والحمدلله علي عزرائيل الذي لا يقبل الرشوة ولا يلتزم بدساتير الترزية)، بل سلم الحكم طائعاً لخلفه الذي يمكن من أقربائه، بل كان مواطناً من ديــــــن آخـــر وإقليم آخــــر ومجمــــوعة عرقية منــــافسة، كمــــا يقضي بذلك التوافق الذي يتطلب تداول الرئاسة بين المجموعات العـــرقية الثـــلاث الكـــبري في نيجيريا.(5)انتخابات نيجيريا شابتها الكثير من الممارسات غير السليمة. والمعروف أن نيجيريا من أكثر دول العالم إصابة بوباء الفساد، حيث تتعرض المليارات من عائدات النفط للسرقة كل عام، كما أن معظم المسؤولين كباراً وصغاراً متهمون بالتورط في فساد من نوع ما. ولكن مع ذلك لا توجد مقارنة إطلاقاً بين ما حدث في نيجيريا وبين ما جري في مصر وسورية من مهازل. فالبلاد تتمتع بحرية كاملة للصحافة وتشكيل الأحزاب. والناخبون تمتعوا بحرية الاختيار، وقد اختاروا بأغلبية ساحقة رئيساً مسلماً من الشمال ليحل محل رئيس مسيحي من الجنوب حكم لأكثر من ثمانية أعوام بلداً أغلبية سكانه مسلمون. وهذا يعني أن كل ما تتعلل به نخبنا من أعذار حول استحالة تطبيق الديمقراطية في البلدان العربية لا أساس لها إطلاقاً.(6)وإذا كنا نحتاج إلي دليل آخر فإن انتخابات موريتانيا التي انعقدت خلال الأسابيع الماضية، وهي أول انتخابات ديمقراطية حقيقية في بلد عربي منذ انتخابات عام 1986 في السودان، دحضت كل حجة لمن يدعون أن الشعوب العربية غير جاهزة للديمقراطية. موريتانيا لا تعتبر من أكثر الدول العربية تأثراً بالحداثة، ومع ذلك فإنها تفوقت علي دول أعرق في الديمقراطية حين قرر المسؤولون هناك التوقف عن شن الحرب ضد الشعب وعدم الوقوف في وجه الخيارات الحرة للجماهير. وبالتأمل فإن هذا الموقف هو الطبيعي والأسهل، بدلاً من ادعاء الوصاية علي الأمة من فئة غالبية المجتمع أكثر فهماً وعلماً، وأقوم خلقاً منها بمسافة شاسعة.(7)الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي انعقدت جولتها الأولي الأسبوع الماضي سلطت الضوء علي جوانب أخري من العملية الديمقراطية، أولها هو أن العملية الديمقراطية، وخاصة الجانب الانتخابي منها، كثيراً ما تستنفر وتستدعي أقل التوجهات نبلاً في الناس والمجتمع، كما نري في التنافس بين أقطاب اليمين علي إرضاء النزعات العنصرية، أو كما نري في معظم الديمقراطيات الغربية، خاصة الولايات المتحدة، من تهافت علي إرضاء لوبيات المال أو بارونات الإعلام. من ناحية أخري فإن انتخابات فرنسا تكشف عن حدود دور الانتخابات في العملية الديمقراطية، خاصة من حيث أن الانتخابات ليست مصممة لحسم كل القضايا، خاصة القضايا الكبري. فعلي سبيل المثال لو أن المرشح اليميني المتطرف جان ماري لوبن نجح في الانتخابات فإن هذا سيشكل تهديداً خطيراُ للعملية الديمقراطية، مما يستدعي إيجاد آليات مركبة، سياسية واجتماعية وقانونية لتعويق مثل هذه النتيجة. وأخيراً فإن الانتخابات الفرنسية تذكر بأن الانتخابات رغم كل شيء تشجع الاعتدال والوسطية، كما نري من تنافس المرشحين، بغض النظر عن توجهاتهم، علي كسب الأغلبية التي لا تستسيغ التطرف يميناً أو يساراً.9