■ من أين يمكن أن يبدأ السارد؟ وأين تقف حدود عمله كروائي منفصلا عن التاريخ لما يقدمه في عمل سردي إبداعي، لا يقول فيه ما حدث، بل يحتكم إلى مخيلته ورؤيته؟ فمواضيعه ليست تاريخا بعينه، لكنها قد تكون مستوحاة من مرحلة تاريخية، وبالتالي هي ليست نقل للأحداث ضمن زمن ومكان، لذا فالروائي يقول أنا لست مؤرخا للأحداث، ولست شاهد عيان يستحضر ما فات من الماضي. حول هذا الموضوع دارت الآراء..
التاريخ بعيداً عن السلطة
بداية يقول الكاتب والروائي التونسي أنيس بن رجب العبيدي: إن علاقة السارد والتاريخ محل جدال كبير واختلاف بين الدارسين والنقاد. محل هذا الخلاف يتمحور في مدى اعتبار الرواية وثيقة تاريخية، أو فلنقل مصدرا للتأريخ لمرحلة ما. قد لا نجد إشكالا كبيرا في ما يتعلّق بالرواية التاريخية التي تأخذ في مضمونها أحداثا تاريخية مضت، يعتمد فيها السارد على أحداث زمنية تم التأريخ لها، فتكون المراجع التاريخية هي المصدر الذي يعتمده السارد في صياغة أحداث روايته وشخوصها، وإن كان المتخيل فيها ليس بسيطا، لكنه لا يتناقض مع المراجع التاريخية، فالسارد يقدم لك من خلال عمله تصويرا أدبيا لتلك الوقائع والأحداث التاريخية، التي قد لا تكون إلا في متناول يد المؤرخين والمختصين في التاريخ. ولنا في الأعمال الأدبية الجديدة التي صدرت مؤخرا رواية «رحلة الدم» للكاتب والصحافي المصري إبراهيم عيسى، حيث تناول فيها أحداث مرحلة مهمة من التاريخ الإسلامي، وهي مرحلة حكم عثمان بن عفان وانطلاق الفتنة الكبرى، والمسكوت عنه في تاريخنا الإسلامي منذ وفاة الرسول إلى اقتتال الصحابة الاوائل بعد اغتيال عثمان وعلي بن أبي طالب بالاعتماد على كتب التراث الإسلامي، وما دوّن في كتب السيرة.
والسارد في مثل هذه الأعمال يلعب دورا مهما في النبش في التاريخ، وتقديمه للقارئ في قالب روائي يستسيغه بعيدا عن كتب التاريخ، التي لا تروق إلا للمختصين والباحثين، وقد تكون الرواية المنجزة في هذا الإطار مادة سينمائية أو مسرحية، لكن في هذا الإطار أيضا ما يخشاه النقاد هو تزوير التاريخ، أو انتقاء مراجع تخدم توجها أيديولوجيا معينا، فكلنا نعلم أن كتابة التاريخ، لا يمكن أن تخلو من التأثيرات الاجتماعية والنفسية والسياسية للكاتب. الإشكال قد يطرح بالنسبة للنصوص التي يعتمد فيها السارد على حدث تاريخي لم يعايشه، ليبني عالما من المتخيل، شخوصه من خيال الكاتب ولا علاقة لذلك العالم بحقيقة الوقائع التاريخية، لا يمكن اعتبار هذا الصنف من الأعمال ضمن الروايات التاريخية، وإن كانت أحداثها تصير في مرحلة لم يعايشها السارد. وأعتقد أنه إذا أردت الاطلاع على التاريخ فلا تقرأه في كتب التاريخ المدرسية، أو في دراسات الباحثين فيه، بل اقرأه في إبداعات الشعراء والروائيين والرسامين والسينمائيين والمسرحيين والموسيقيين، ستجد ما أخفته سلطة الحاكم من أوراق الأكاديميين. وليس أدل على هذا القول من أعمال الروائي الفرنسي بالزاك، ومواطنيه إميل زولا وفيكتور هوغو» والكسندر دوما. وفي الروائيين العرب نجيب محفوظ وحنا مينه وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف. كل هؤلاء كانوا مؤرخين لزمنهم، وهو لعمري التأريخ الأدق والأوفى للحقيقة التاريخية، لأن التاريخ الرسمي يكتبه من يملك السلطة وبه يدون ما يخدم سلطته.
الحدث التاريخي والخيال الروائي
وتقول القاصة الليبية سعاد الورفلي.. العصور الأدبية تحققت فيها الحقبة التاريخية مؤثرة بأزمنتها الوقتية والفترة الزمنية، وتأثيرها البالغ بمحتويات الظرف العصري. السارد الروائي يتطبع بالفترة التي يقضي فيها مع روايته، فالرواية تلتزم بمرحلة تاريخية، وإن لم تظهر تلك الفترة واضحة جلية في الحبكة السردية. كثيرة هي الروايات التي تناولت مواضيع تاريخية، مضيفة شخصيات من المتخيل؛ ومخيلة السارد تلعب دورا مبطنا في تكوين الشخصية التاريخية، المنبثقة عن الشخصية الحقيقية؛ لكنها ليست هي عين الحقيقة، بل محاكاة لها بظلال الخيال. أما الإشكالية التي يقع فيها تصنيف الروايات وأنواع السرد وموقف السارد من طبيعة روايته، فهو بين حقيقة وخيال، من حيث السردية التاريخية (المتوهم والمتخيل والزمن التاريخي) فإن السارد لا يتقيد كثيرا بتلك الحقيقة لكون سرده محكيا تراثيا، يسرد من خلاله حقبة زمنية ما. فالخلط أنه ليست كل رواية تسرد حقبة تاريخية كمتمثل حقيقي لتلك الشخصيات والأزمنة الممتدة، فكثير من الروايات تدخلت فيها طبيعة السارد النفسية، وتمركزت حول ما يريد السارد تجسيده، وما يتمنى أن يحدث، إضافة لذلك فإن وضع لمسات جمالية على بعض الأبطال والشخصيات، ومنحها مساحة كافية مؤثرة، ما هو إلا تحريف لسرد رواية كتصنيفها سردا خياليا يقتبس من فيض التاريخ ما يجعله أكثر ثقلا ودقة في تأسيس حدث ما. وبذلك تظل الرواية هي السرد الذي يتجسد فيه الرمز، ليمثل شخصيات هي بعين ذاتها عاشت فينا وتجسدت حقيقتها تاريخيا، لكن ساردها يظل مشْكِلا بين حقيقة الحدث (التشابه الفعلي) وأمثولة الخيال (التجسيد السردي المتخيل).
علاقة السارد والتاريخ محل جدال كبير واختلاف بين الدارسين والنقاد. محل هذا الخلاف يتمحور في مدى اعتبار الرواية وثيقة تاريخية، أو فلنقل مصدرا للتأريخ لمرحلة ما.
حتى لا يُعيد التاريخ نفسه!
ويري الكاتب والأكاديمي العراقي محمد جاسم فلحي، أن التاريخ يمثل إشكالية معقدة لكل مثقف، وأغلب المبدعين الذين جعلوا من التاريخ مادة للسرد الروائي أو المسرحي أو الشعري، حاولوا استنباط العبر والدروس من الماضي، قبل إعادة الحوادث والشخصيات الميتة، ومهمة المثقف المبدع أن يغترف من التاريخ أعذب وأنقى معانيه، ويتجنب ذلك الغث الهائل من العقد والخلافات والدماء التي تلطخ صفحات التاريخ مع الأسف، لكي لا نظل في الحاضر ندور في حلقة مفرغة من الأخطاء الماضية والأفعال وردود الأفعال والثارات والمآسي، التي يتجرع مرارتها الأبرياء، في صراعات ليست لها بداية أو نهاية عاقلة.
غواية التاريخ
ويقول الكاتب السوداني هشام آدم.. أعتقد أن ثمة غواية ما في التاريخ تغولت على جنس الرواية بالتحديد، ولم يعد كثير من الروائيين يفرقون بين الرواية والتاريخ، معتمدين في ذلك على أن سارد التاريخ هو راو وأن سارد الرواية راو كذلك. وهنالك نماذج كثيراً توضح لنا تغول التاريخ على الرواية، حتى أصبح جزءاً منها في وقت لاحق وربما كان أشهرها وأقربها رواية «عزازيل».
توظيف التاريخ
ويؤكد القاص والروائي العراقي زهير كريم، أن الأدب لا يقدم الحقائق، بل يقوم بعملية تفكيك الوقائع، يعرضها، يطرح أسئلة ويشير إلى المواضع المثيرة للشبهة، ويبدو أن هذا أول الأنساق التي تحدد طبيعة العلاقة المضطربة بين الروائي، باعتباره منتجا للنص المتخيل، والمؤرخ مدونا للسردية التاريخية. وهنا، لابد من استحضار بعض الأفكار، وهي في ظني توضح الإشكالية، أو الشبهة. فنحن نفترض أن المشتغل في منطقة السرد التاريخي محكوم كونه يحمل صفة الشاهد، وتترتب على هذه الشهادة شبهة أمام استجواب القارئ، تتعلق بثنائية الصدق والكذب. الروائي يشتغل في منطقة أخرى بعيدة نسبيا عن هذه الثنائية، وهو غير ملزم بأيّ استجواب، حيث أن قصدية إظهار الحقيقة التاريخية ليس من قصديات السرد، الروائي يقدم رؤية لواقعة تاريخية وحسب، ولا يطالب أحدا بتبني متن النص باعتباره حقيقة أو زيفا.
هناك سياق آخر في الحديث عن سردية التاريخ ، تظهر فيه بالضرورة ثنائيات أخرى: السلطة والمعارضة، المنتصر والمهزوم، أو المتن والهامش، وفي هذه المنطقة تظهر شبهة تتعلق بالمؤرخ، وليس للروائي المنزّه منها، لأن مادة السارد هي الخيال، ومادة المؤرخ هي الواقعة التاريخية، والتي تحضر في تدوينها فكرة الأمانة. وفي شبهة أخرى تظهر سياقات تتعلق بالمقدس والخطوط الحمر، فيعرض الخريطة السيرية للأشخاص، باعتبار أن العبث بالتاريخ غير جائز افتراضا، رغم أن السردية التاريخية خضعت إجمالا لثنائيات المنتصر والمهزوم، وعبثت ايضا بالأشخاص مهما كانت درجة القداسة التي يتمتعون بها. أما الروائي منتج السردية الأدبية، فيمتلك حريته في عرض شخصياته، تظهر هذه الحرية في الفرق بين الأشخاص والشخصيات، فهناك لحم ودم وتاريخ وقداسة، وهناك خيال، وكائنات من ورق. وصحيح جدا، أن السرد باعتباره منتجا أدبيا لا يقدم الحقائق، لكنه يفتح السبل للفهم، وينير أحيانا لفك الاشتباك في تداخل الحقائق، وفي هذا الجانب، حدث أنني وقعت لسنوات طويلة في غموض ما تقدمه الصحافة والميديا بشكل عام، بخصوص قضية دارفور، قرأت مقالات، وشاهدت بعض الأفلام وفي النهاية لم تنفتح لي بوابات الحقيقة، ثم جاء الوقت التي وقعت بيدي رواية الكاتب السوداني عبد العزيز ساكن «مسيح دارفور». لقد حفرت الرواية في جذور المشكلة، أظهرت لي الجغرافيا باعتبارها مشهدا نفسيا وفلسفيا، قبل أن يكون تاريخا، وعرضت لي الوقائع برؤية السارد، وفككت المشكلة، شرحها مبضع الكاتب الجراح، وأشار لي عن مواضع الشبهة. وفي الحقيقة لا أدعي أن الرواية قدمت لي الحقائق، لكنها منحتني فهما، وفتحت لي بابا لكي أدخل إلى المشكلة من الباب، الذي لم تتمكن تقنيات الميديا رغم تطورها من الإشارة إليه. فمن العبث النظر إلى النص الأدبي على أنه رواية تاريخية، لا أعتقد بمفهوم الرواية التاريخية، فهناك فقط توظيف للتاريخ في بناء معمار، المادة فيه هي أحجار التاريخ، أحجار قديمة يتم تنظيفها، وتقطيعها بأشكال متنوعة لتقديمه برؤية جمالية، هي بالتأكيد غير الرؤية المعمارية التي قدمها التاريخ.
التحريف والتزييف
ترى الشاعرة اليمنية ليلى الهان أن الإشكالية في بعض الأوقات تكمن في أن السارد يحرف التاريخ ولا ينقله على ما نريد، لذلك حتى الآن لا يوجد سارد نقل لنا التاريخ كما يجب، لا بد من وجود تحريف وتزييف. وتشاركها في الرأي الشاعرة السورية إباء إسماعيل، التي ترى أن الأمــــر يعتـــمد على كيفية تناول السارد للحدث التاريخي، الخيال والتشويق وتفاصيل الأحداث والشخصيات قد تؤثّر إلى حد خلق هذه الإشكالية! الإشكالية تكمن في تشويه أحداث التاريخ أو عدم توخّي الأمانة في رصد الشخصيات والتاريخ.
٭ كاتب وصحافي مستقل
طرابلس ليبيا
واكبر اشكالية تعرض لها المجتمع الاسلامي كانت على يد اهل السقيفة الذين شوهوا احداث تاريخ الاسلام وتركوا الامانة في تقييم الاشخاص وحركة التاريخ الاسلامي بعد نبذهم لكل ما جاء عن رسول الله(ص) من تشكيل وتحديد الادوار للمسلمين بعد وفاته ورسم معالم منازلهم وتوضيحها بشكل لا يقبل اللبس والغموض ولقد ساهم بني امية ومن بعدهم بني العباس مساهمة فاعلة في تشويه الحقائق الاسلامية وحرف مقومات العقيدة الاسلامية عن مسارها المستقيم الواضح كما رسمه لها النبي محمد (ص) تحريفا يتناسب ويتلائم مع اهدافها وغاياتها الدنيوية فالدين بالنسبة لهم حقل لتحقيق المنافع والمصالح في الدنيا