ما بين الصين وروسيا: شراكة استراتيجية مستقرة

ما يميز العلاقات بين القوى العظمى الثلاث في العالم، الصين الشعبية، الاتحاد الروسي، الولايات المتحدة الأمريكية؛ عدم وضوح وضبايية هذه العلاقة، أكانت سلبية أم إيجابية، حين تتلاقى مصالحهم، وتتطلب منهم؛ مواقف محددة، مع أو ضد هذا الموقف أو ذاك، في مجلس الأمن أو غيره، من ساحات الصراع. ومن الطبيعي أن تكون مواقفهم من تلك الصراعات طبقا لمصالحهم، في نظام عالمي مضطرب، يتفكك بصورة او بأخرى، ليفسح الطريق لنظام عالمي جديد؛ يتكون بسيرورة يسودها الاضطراب والارتباك والخطورة والتعقيد، وانعدام الاستقرار الاستراتيجي، وربما لا تضع خاتمتها في الأمد المتوسط.
الولايات المتحدة بفعل ما تمتلك من مقومات القوة والقدرة في الجوانب الاقتصادية والتجارية والمالية، تفتقر لها روسيا بصورة واضحة وحادة، أما الصين فتحوز قسماً كبيراً جداً من هذه القوة والقدرة، وبالذات في المال، والإنتاج، والتجارة والبشر، وتقترب مما لدى الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، وربما تسبقها مستقبلا، ولأن نظاما عالميا جديداً، يحل محل النظام الحالي؛ عليه، فإن الولايات المتحدة تعمل بقوة وبجدية؛ لتطويق هذه المساعي، بمختلف الوسائل والطرق، بإقامة تحالفات وتكتلات جديدة في جميع فضاءات حركتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية، لمحاصرة كل من روسيا والصين، سواء كمحور واحد، تعمل على تفكيكه.. أو على انفراد.
صانع القرار الأمريكي يعرف؛ أن هذه الشراكة لا تستند إلى أسس متينة، وإن ما فرضها عليهما؛ هو السلوك الأمريكي ضدهما، سواء بالعقوبات الاقتصادية، أو بغيرها، وصانع القرار الأمريكي، الذي هو على صلة، بالصين وروسيا، في الاقتصاد والطاقة والتجارة، والسوق والإنتاج؛ يدرك أيضا أن التحالف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قابل للتصدع مستقبلا. وأمريكا رغم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على كل من الصين وروسيا، تعمل على إبعادهما عن بعض، بمختلف الوسائل والطرق، لإدراكها أن الشراكة بينهما، سوف تلحق بها ضررا بالغا، يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف هيمنتها على العالم، نتيجة تضافر القوة العسكرية الرادعة للقوة العسكرية الأمريكية، التي تمتلكها روسيا مع القوة المالية والاقتصادية والإنتاجية، والكتلة البشرية الكبيرة جدا، التي تمتلكها الصين الشعبية. روسيا أعلنت مؤخرا، على لسان بوتين؛ أنها طورت قدراتها في الردع النووي الاستراتيجي، صواريخ فرط صوتية، وحاملات المقاتلات والقاصفات الاستراتيجية، والسفن والغواصات النووية، والغواصات النووية المسيرة، بوسيدون مثلا.. ودعا بوتين في اجتماع عسكري في سوتشي إلى تحديث الترسانة القديمة، كما كان يجري العمل به في السابق، ويقصد به أيام الاتحاد السوفييتي.
الجنرال مكنازي وصف الشراكة الصينية الروسية، بأنها أكبر تهديد لمصالح الولايات المتحدة في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط، وفي آسيا الوسطى، وفي شرق آسيا وفي جنوب شرق آسيا؛ وفي المنطقة العربية، موضحا أن كلا الدولتين تحاولان ملء الفراغ في المنطقة العربية، مؤكدا في تصريحه؛ أن الولايات المتحدة سوف تحتفظ بوجود عسكري قوي في المنطقة العربية. ولمحاولة تفكيك هذه الشراكة؛ أبدت الولايات المتحدة في الأسابيع الاخيرة مرونة كبيرة في التعامل مع روسيا، في الاجتماع الذي جمع وزير خارجية الدولتين، في اجتماعات مجلس القطب الشمالي، ما دفع بالمتحدثة باسم الخارجية الروسية للإشادة بروح الانفتاح التي أظهرها وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، صاحب هذا الانفتاح، رفع العقوبات الاقتصادية عن الشركات التي تقوم بإتمام السيل الشمالي الثاني، الذي يورد الغاز الطبيعي إلى المانيا وأوروبا. هذا التطور يحمل بعدين في غاية الأهمية؛ أولا، إرضاء المانيا، ومن ثم أوروبا، وثانيا، تقريب روسيا، كبداية لطريق طويل، لسحبها من الشراكة مع الصين، أو على أقل تقدير تقليل مساحة تلاقي المصالح بين روسيا والصين. ربما، في المقبل من الزمن، ستتبعها خطوات أخرى على هذا الطريق، في المنطقة العربية وجوارها، وفي آسيا الوسطى، وفي الكتلة الأوراسية، التي تضم روسيا والصين والهند وكازاخستان، ودولا اخرى. ونحن هنا لا نتحدث عن الوقت المنظور، بل عن الأمد المتوسط.

أمريكا تدرك أن الشراكة بين الصين وروسيا، ستلحق بها ضررا بالغا، يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف هيمنتها على العالم

الصين وروسيا رغم الشراكة الاستراتيجية بينهما، إلا أنها لم تبن على أسس متينة. الصين تمتلك القدرة الكبيرة على الاستثمار في فضاءات الدولتين، بما لا يقاس بما تمتلك روسيا، ما يؤدي في النهاية إلى عدم تكافؤ الفرص، وهذا يقود بالنتيجة إلى تقاطع المصالح بينهما، ما يعني أن هذه الشراكة هي في الإساس هشة وتفتقر الأرضية الصلبة، التي يتم البناء عليها، وهذا هو ما تعرفه الولايات المتحدة، وتبني سياستها المستقبلية عليه، هذا من جانب، ومن الجانب الثاني؛ فإن الولايات المتحدة تعرف وتعلم أن هناك في النخبة الروسية من يميل إلى التعامل مع الغرب، وهو الميل نحو انتهاج سياسة ليبرالية على الطريقة الأوروبية، وهي بهذا تؤسس لمرحلة ما بعد بوتين، عليه، فإنها تريد وتعمل تخطيطا وتنفيذا “على الرغم من العقوبات الاقتصادية على روسيا، لتقليل شعبية بوتين مستقبلا”؛ تجسير الهوة مع روسيا، على حساب العلاقة مع الصين. إن التعاون مع روسيا، ولو بالشكل المحدود حاليا، وبالشكل الواسع مستقبلا؛ لا يشكل خطرا على الهيمنة الأمريكية. أما مد جسور التعاون مع الصين، فيساعد الأخيرة على استمرار صعودها، ما يشكل خطرا جديا على الهيمنة الأمريكية. بايدن صرح مؤخرا؛ بأن روسيا تعتبر دولة عدوة، أما الصين فدولة منافسة، ولا يمكن الصدام العسكري معها. الصدام العسكري بين القوى العظمى الثلاث، لا يمكن أن يحدث أبدا، لأنه، يدمرهم بالكامل، بل يدمر الأمن والاستقرار الدوليين.. حتى لو حدث خطأ ما، يجري بسرعة احتواؤه، وتطويق تداعياته. لو تفحصنا هذا التصريح طبقا لمجريات الحركة الأمريكية في السياسة والاقتصاد والتحالفات الجديدة المزمع إقامتها مع الهند واليابان وأستراليا، على أرض الواقع، نلاحظ ان التصريح مخادع ولا يعكس حقيقة التفكير الأمريكي والاستراتيجيات الأمريكية، فهو موجه بالدرجة الأولى لتطويق الصعود الصيني ومحاصرته. أما مع الاتحاد الروسي فهناك تعاون أمريكي روسي، في سوريا، وفي القضية الفلسطينية، وفي أفغانستان، وفي الصفقة النووية بين إيران والقوى الكبرى في العالم، رغم تطويق الناتو لروسيا بالقواعد العسكرية على الحدود الأوروبية معها، لكنه لا يلغي هذا التعاون، بل يؤكده لضرورة الاستقرار الاستراتيجي الدولي، والفضاءات الإقليمية لمصالح الخصمين.. إنما مع الصين الشعبية لا يوجد مثل هذا التعاون، لا في الفضاء الإقليمي، شبه الجزيرة الكورية، ولا في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي تايوان، بل العكس هو الصحيح.
من الجانب الثاني؛ القيادة في الصين الشعبية والاتحاد الروسي، والأخير حتى بعدم وجود بوتين؛ يدركان خطورة فض الشراكة، على مصالحهما الجيوسياسية، وما تنتجه لهما من مصالح اقتصادية ومالية وتجارية في جميع حقول الإنتاج.. عليه فإن الدولتين لن تفرطا بهذه الشراكة، وستعملان على إيجاد محطات تتلاقى فيها مصالحهما المشتركة، وتقليص مساحة التقاطع بتفاهمات تعد مسبقا، أو آنيا؛ لمعالجة تضارب المصالح التي تفرضها عليهما طبيعة الصراع الاستراتيجي مع الغول الامبراطوري الكوني الأمريكي. السؤال المهم؛ ما هو انعكاس صراع هذه القوى العظمى على المنطقة العربية وجوارها، في المرحلة الانتقالية، لنظام عالمي يتفكك، ونظام عالمي يتبلور وينضج على صفيح ساخن من الصراعات والحروب، سواء الظاهرة منها أو الخفية، أي المخابراتية؟ وللإجابة على هذا السؤال؛ نأخذ مثالا، إيران وتركيا، والنظام الرسمي العربي؛ وكيفية تعامل هذه الأطراف الثلاثة مع صراع القوى العظمى على مناطق النفوذ، واستثماره لصالح مصالحهم الوطنية والقومية، وباختصار؛ تركيا جذّرت وجودها في آسيا الوسطى، في أذربيجان، وفي بقية الدول الناطقة باللغة التركية، وفي سوريا، وفي العراق، وفي البحر الأبيض المتوسط، بقرار مستقل وسيادة كاملة على سياستها الوطنية والقومية، ما أجبر روسيا على التعامل الندي معها. والاتجاه ذاته في السياسة الإقليمية والدولية؛ جعل الولايات المتحدة تحسب لمصالح تركيا حسابا كاملا، عند التفكير في إيجاد الحلول لمناطق الصراع آنفة الذكر. إيران لها وجود فاعل وحاسم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ما جعل منها عنصرا حاسما لا يمكن الاستغناء عنه، أو تجاهله، عند التفكير في إيجاد حلول للصراع في الدول المشار لها، بما يحفظ لها مصالحها القومية.. تكفي هنا الإشارة إلى أن المفاوضات حول الصفقة النووية، صاحبها البحث الجدي عن حلول للصراع في الدول العربية. هنا نشير إلى ان وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، طلب من إيران الضغط على الحوثيين للقبول بالحل المطروح لوضع حد للحرب في اليمن. الدولتان لهما مشروع وطني وقومي، يعملان على تنفيذه، باستثمار الصراع في المنطقة العربية، وفي غيرها أيضا، وبخط مواز، إجرائي، مع استثمار صراع القوى العظمى على مناطق النفوذ في المنطقة العربية، وفي غيرها، بتحقيق مصالحهما الوطنية والقومية على سلم مشروعهما المعد سلفا. أما النظام الرسمي العربي، فليس لديه مشروع وطني وقومي، يضبط إيقاع الحركة السياسية والاقتصادية، وما يتصل بالاثنين من مقومات وهي كثيرة، بل أكثر كثيرا مما هو في حوزة تركيا وإيران، اللتين استثمرتا هذه المقومات العربية، لصالحهما. أنظمة الدول العربية، بدل استثمار ما لديهما من عناصر القوة والقدرة، تعمل كل دولة عربية بطريقتها الخاصة، تبديل هيمنة بهيمنة أخرى، سواء كانت إقليمية ـ بضمنها الكيان الصهيوني، أو دولية أي القبول بمصادرة القرار المستقل، والتعايش مع الجروح التي تسببها هذه الهيمنة على جسد السيادة، وما يجره من استغلال ونهب للثروات. وهذا هو ما يفسر لنا بصورة واضحة لا لبس فيها ولا غموض؛ غضب الشارع العربي على حكوماته العربية. وهذا يعني، أن الأنظمة العربية الخانعة والتابعة.. سوف تهتز دعائمها ذات يوم، وتنهار وتتحطم.

*كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية