الكتابة
لعل الفرادة التي تكمن في الكتابة الأدبیة الإبداعیة، كونها لا تأتي تلقینا، وإنما یكمن السحر في تدفقها التلقائي المبهر، وعصفها الداخلي الذي لا یهدأ، ولا یستكین.. الأجمل والأكثر إثارة، حین یتوقف الوعي عن مراقبة هذا التدفق، تاركا له كامل حریة العبور والحركة. تدّخل الإرادة من شأنه أن یحد من وهجه ویقتل شیئا من روحه. فنحن نسيء التفكیر، حین نعلم أننا نفكر. ونسيء الإصغاء إلى اللحن الموسیقي حین نعي أننا نصغي إلیه.
لنقل أنها خمیلتنا الظلیلة التي نأوي إلى حضنها، في عصر یوم قائظ، ومن هناك، من تحت فیئها، تفیض علینا الأحلام، عذبة.. طریة.. مستفزة. ربما یتوجب علینا أن نعترف، بأنه رغم القتامة والعتمة، والخمول والثقالة، واعوجاج الدرب، وكآبة الأیام، إلا أن العذوبة الكامنة، والعناد الآسر، الذي یزدهر في النصوص المضیئة، قادرة بشكل ما،على إزاحة ما یتراكم في هذا العالم من التجهم والقبح، والبشاعة والملل والزیف والریاء، الذي یغلف أعمارنا.
القراءة
لعل الأجمل في عملیة القراءة، ذلك النواسان المدهش، ما بین المحادثة الذاتیة،
والحوار العمیق والمفتوح مع الآخر، یستفزنا عناد ساحر، للتورط في ولوج بوابة ذلك العالم، والتجول في أروقته الحافلة بالمتعة والغوایة وسحر الاكتشاف.. والجمیل في الأمر، أن طبیعة الدماغ، تأبى الفراغ، فهي في حالة توق فطري دائب إلى الإثارة، والبحث عن غیر المألوف، والهجوم على الملل. هذا الغلیان الفكري المحموم، هذا القلق الوجودي المبرح، هذه اللذة في اكتشاف المجهول، یجعلنا ننتحي بشغف، زاویة أو ركنا أو حتى وسط الضجیج والفوضى، ونقرأ ونقرأ ولا نكف نقرأ.
لنمارس ملذات العقل والروح، فنكتشف، ونندهش، ونسأل، ونجیب ونتألم، ونحب ونكره، نقرأ، لنعیش عصف تلك الصدمة المثیرة، التي تنبش عوالمنا الخفیة، الراكدة في العمق والعتمة. فتطفو، وتضيء، وتغیر. نقرأ، لنقاوم الملل، لا نستهین بهذا الوحش القبیح، الذي یصیب الروح بالعطالة والعطب، ویجعلنا نقترف الأخطاء، ونقع في جور الهم والكآبة، إن لم نغذها بجرعات من مباهج العقل.
كثیر من الكتب یثیرنا اسمها واسم كاتبها فقط، نلهث وراءها، ونضمها إلى مكتبتنا مزهوین، وننساها هناك. في حین أن كثیرا من الكتب لا یحظى كاتبها بالشهرة والضوء، تبقى مجهولة، تأكلها غبرة رفوف المكتبات، حتى إذا حان الوقت، واقتربنا منها أكثر، ولامسنا بهدوء محتواها، وتركنا لعبقها أن یملأ أنوفنا، ویستحوذ على حواسنا، أدركنا بدهشة أنها الأجمل والأكثر متعة. لعل أجمل ما في القراءة، قدرتها أحیانا، على الإجابة على ذلك السؤال المبدئي والمبرح
من أنا، ومن أنت؟
القارئ
الخلل الكبیر الذي قد یصیب العمل الإبداعي، حین یتورط القارئ بحوار ضمني أو علني، لا یشبه النص الإبداعي بشيء، متخلیا عن سعة الأفق، وأصالة الثقافة والفكر، لیفصل بین الكاتب وما یكتب، صابا جام نقده على شخص الكاتب، تاركا النص یسقط تحت وطأة الفراغ النقدي الموضوعي.
الكاتب یقدم لك نصا. خذه كما هو، إقبله أو ارفضه، هذه هي مساحتك،لا أكثر ولا أقل. ما یحزن، أن تقف في وجه تدفقه، وتمنع بهجة روحه من أن تنسكب، رهیفة، عذبة، حرة. وفي حین یخط الكاتب الكلمة الأخیرة، ویتلعثم مثل طفل صغیر. تبدأ فانتازیا طقوس الوداع المؤلمة، هذه شروط اللعبة الجمیلة، لعبة ذكیة تتم بتناغم تام بین الكاتب والقارئ. الكتاب الآن یتابع حیاته حرا من دون كاتبه، ویزدهر بعیدا عنه، وفي حین یستأنف الكاتب، رحلة أخرى، في فضاء آخر، في مكان ما، یتحسس بقدمیه الحافیتین، نداوة العشب الطري، ویضفر من كل مساء طوقا من النجوم، ومن تهاطل المطر یقتبس ضوءا لروحه، تبدأ رحلة القارئ، ینتحي ركنا قصیا، ویقرأ.
٭ كاتبة سورية