يبدو العيش في هذه اللحظة العربية أشبه بالعقاب الذي ينزل بلا رحمة على العقول والقلوب، كأننا في كابوس لا نستطيع أن نصدّق حقيقته، لكن هذه الحقيقة تصفعنا كل يوم.
نحن الذين نعيش في هذا الزمن، في أي مكان من المشرق العربي، نشعر بأننا ابتلينا بالحياة، صار موتنا عنوان حياتنا، وفقدنا القدرة على الكلام، لأن من استحوذ على الكلام هم السفهاء الذين جبلوا لغتهم بدماء الضحايا.
لا نقول لأن اللغة لا تمتلك رديفا ماديا يسمح لها بأن تتحوّل إلى فعل.
أما سفهاء هذا الزمن، سواء أكانوا إسرائيليين أو أمريكيين أو عربا، فهم لا يقولون إلّا لأنهم يمتلكون قوة تحويل كلامهم إلى وقائع تعلن دخول العرب في عتمة البؤس والقهر والتفكّك.
لا أحد يردع الأمريكان عن إعلان نهاية وجود اللاجئين الفلسطينيين، بل نجد في حكّام العرب من ينحني موافقا، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة كي يكشف عن أن قضيته الوحيدة هي البقاء في سدّة التسلّط وتبذير الثروة النفطية، والارتماء في أحضان إسرائيل.
و لا أحد يردع الصلف والتكبّر والتجبّر الإسرائيلي، الذي كشف الوجه الحقيقي للصهيونية، باعتبارها مشروع تسلّط عنصري، وامتدادا للاستعمار في أكثر أشكاله قبحا وفجورا. نتنياهو يمتطي منصة الأمم المتحدة ولا يحكي في الموضوع، أي في الاحتلال، لأن إسرائيل، وبفضل انحطاط العرب، أذابت احتلالها في محلول الصراع السني الشيعي، وتسعى إلى البقاء قوة عسكرية واقتصادية وحيدة في المنطقة.
ولا أحد يتصدّى لايقاف المقتلة السورية التي تحوّلت إلى نكبة مستمرة، بفضل الجيوش الروسية والإيرانية التي استباحت سوريا وأطاحت استقلالها، وحوّلتها إلى ملعب تتنافس فيه خمس قوى: روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل، ولا وجود لطرف سوري يستطيع أن يكون شريكا في معادلة هذه النهاية.
المهمة الأولى اليوم هي غسل اللغة بماء الألم. لغة العرب في حاجة اليوم إلى أن تغتسل بالألم الذي يحتلّ حياتنا، كي تخرج وتُخرجنا من الحضيض.
ولا أحد يوقف المجزرة اليمنية، التي حوّلت أرض اليمن إلى مرتع للبؤس والموت والفقر.
ولا أحد يلتفت إلى لبنان، الذي يتأرجح في فراغ كونفدرالية طوائفه، ويصير مزبلة للسياسة، ويتحوّل إلى مريض بالخوف من مجهول صار معلوما: مجهول الأزمة الاقتصادية التي لا وجود لحلّ لها لأن من يمسك بها هي مافيات اللصوص، ومجهول الخوف من انفجار المنطقة التي تسعى إسرائيل للوصول إليه.
حين أقول لا أحد فأنا لا أقصد ما يسمّى المجتمع الدولي الذي لا وجود له، والذي أنهى الرئيس الأمريكي وجوده الرمزي. بل أقصد العرب، أي أهل هذه البلاد بنخبهم المهاجرة أو التي هي في طريقها إلى الهجرة، وبما تبقى من مثقفيهم داخل أوطانهم، وهم يواجهون الخوف والقمع، وبمجتمعاتهم التي ينخرها التفتت الطائفي والقبلي، ويستوطنها الفقر ويجتاحها الجهل.
هذه اللاأحد هي نحن أو ما تبقّى، في الماضي روى غسان كنفاني عن «ما تبقى لكم»، أما اليوم فإن سؤالنا هو «ما تبقّى منكم، أي منّا».
في هذا السؤال تكمن قدرتنا على مواجهة أنفسنا في هذه اللحظة الصعبة، حيث علينا أن نغسل الكلمات بالمعاني التي فرّت منها، ونبدأ من المكان الذي يبدأ فيه كل شيء حيّ، أي من ماء اللغة.
عندما التقيت في العام الماضي إسماعيل فهد إسماعيل، تكلّم الروائي الكويتي الكبير عن استعادة القدرة على أن نحكي قصتنا. هذا ما قام به في روايته الأخيرة الجميلة «السبيليات»، التي ذهب فيها إلى مناخات الجرح العراقي من خلال حكاية بسيطة تروي عن صناعة الحياة وسط الموت والخراب.
تكلّم الروائي عن القدرة على رواية الحكاية بصفتها المدخل الضروري إلى الخروج من نفق الصمت والانهيار اللغوي الذي تعيشه العرب اليوم.
تذكّرت وأنا أستمع إلى كلماته كيف صنع أجدادنا نهضة العرب الأولى بالشعر، فمن صيحة اليازجي «هبّوا واستفيقوا أيها العرب»، بدأت حكاية انكسرت عام 1948، في هزيمة فلسطين بأيدي العرب قبل أن يهزمها الصهاينة. وبعدها عدت إلى بدايات نهضة الحداثة التي ارتسمت أولى معالمها في النقد الحديث على يد طه حسين قبل أن تصل إلى ذروتيها في الشعر الحديث وفي الرواية الطبيعية المحفوظية، وهي نهضة تفتّتت في الهزيمة الحزيرانية التي صنعتها أنظمة الانقلاب العسكري.
نحن اليوم نعيش هزائم ما بعد الهزيمة، ولعل السمة الأبرز لهذه الهزيمة هي فقدان معنى الكلام الذي يدوسه اللغو ويمحوه الألم.
من هنا نبدأ.
المهمة الأولى اليوم هي غسل اللغة بماء الألم. لغة العرب في حاجة اليوم إلى أن تغتسل بالألم الذي يحتلّ حياتنا، كي تخرج وتُخرجنا من الحضيض.
وهكذا يصير الأدب حاجة، وليس تعبيرا عن حاجة.
عندما مات الروائي الكويتي أحسست أن الرجل ودّع الحياة برواية أودعها حنوه وانغماس لغته في لغة الحياة اليومية، بحيث بدت المرأة العجوز وهي تعود إلى قريتها شبه المدمّرة وكأنّها تلخّص كل النساء العربيات هنا وهناك، من فلسطين إلى سورية ومن العراق إلى اليمن.
ما تبقى منّا هو لغتنا، والمهمة الأولى هي اسعادة الكلام وإعادة خلق اللغة وتأسيس قيم الحريّة والعدالة والمساواة.
أعرف أن هذا العمل لا نتائج مباشرة له، فالنفق الذي تمرّ به العرب طويل ومعتم، لكنني أعرف أيضا أن الخروج يبدأ حين ننجح في رواية حكاياتنا، معيدين اللغة إلى مصدرها، أي إلى الكلام وإلى الناس الذين يصنعون الكلام.