تظهر الصور التي التقطتها وكالات الأنباء من الغابون أشكالا من الفرح الطبيعي عبّرت عنه جماهير خرجت إلى الشوارع وأخذت تلتقط الصور مع الجنود وتهلّل للحكام العسكريين الذين أطاحوا بالرئيس علي بونغو الذي كان يتأهب لدخول ولاية ثالثة.
تبدو أشكال الفرح هذه متناسبة مع المنطق السياسي (والفطرة البشرية السليمة؟) التي تدرك أن حفاظ مجموعة بعينها على السلطة لعقود، يعني فتح أبواب الامتياز والفساد والتسلّط، ويزداد الأمر بؤسا حين يتم ذلك تحت إطار نظام ديمقراطي، فرغم فوزه بولاية ثالثة بنسبة تقارب 63٪ من الأصوات، يمثل بونغو، بالنسبة لأجيال من مواطني البلاد، استمرارا لحكم العائلة الواحدة، الذي بدأ مع أبيه (الحاج) عمر بونغو، الذي قرّر اعتناق الإسلام في بلد يمثّل المسيحيون قرابة 70٪ من سكانه، وبقي في كرسيّ الحكم 40 عاما، ليأتي ابنه، علي بونغو، ليتابع اتجاه تأبيد الحكم في العائلة، ببقائه في الحكم 14 عاما كانت ستستمر، ربما حتى وفاته، لو لم يقطعها قائد حرسه، الذي انقلب عليه ثم أعلن نفسه رئيس «المرحلة الانتقالية» أول أمس.
عرضت وكالات الأنباء أيضا وقائع خروج جماهير في النيجر، التي وقع فيها انقلاب في 26 تموز/يوليو الماضي، غير أنها كانت، في البداية، مظاهرات متعارضة، بعضها مؤيد للانقلاب وبعضها الآخر مندد به، لكن مدّ التأييد للانقلاب ازداد بشكل كبير، مع تصاعد المشاعر ضد فرنسا، الدولة التي كانت تستعمر البلاد، وما تزال تملك قاعدة عسكرية كبيرة فيها، واتخذت مواقف سريعة مناهضة للانقلاب، وداعمة لتدخّل عسكري هددت به منظمة دول غرب أفريقيا «إكواس» لإعادة الرئيس المطاح به، محمد بازوم، فشهدنا حضور قادة الانقلاب في استعراض لقوتهم الجماهيرية في ملعب كبير لكرة القدم. سجّلت الأنباء خروج مظاهرات في النيجر وفي نيجيريا المجاورة، مناهضة للحكم العسكري، أقل حجما من مظاهرات التأييد الواسعة، ولكنّها تدلّل على وجود معارضة، يقدّر أن تتوسّع، للانقلابيين.
يشير مثالا الغابون والنيجر إلى تشابهات واختلافات، فالنيجر لم تكن تعاني من حكم مزمن لعائلة واحدة. ويثير تأييد المعارضتين الانقلابين التساؤل، فحركة «إم 62» التي تقود مظاهرات التأييد في النيجر، تضم تحالفا من نشطاء ومؤسسات المجتمع المدني، ومنظمات يسارية «مناهضة للامبريالية» ونقابات عمالية، واتحادات طلابية، و«لجنة تنسيق النضال الديمقراطي» وباستثناء المنظمات اليسارية والنقابات والاتحادات، يبدو مثيرا للدهشة أن يؤيد نشطاء المجتمع المدني والمنظمات التي ترفع شعار الديمقراطية لاستيلاء العسكر على السلطة.
يتعلّق التأييد الشعبي للانقلابات، ضمن السياق الآنف، بنخب سياسية ونقابية وجمهور منجرف للحماس لـ«أي تغيير» للواقع.
يستغل الانقلابيون، والنخب التي اندفعت لتأييدهم، مشاكل حقيقية، يعبّر عنها غضب الأحزاب، والجمهور، من عدم حل إشكالات ساهمت في تعقيدها أزمة كورونا، ثم أزمة الحبوب التي خلقتها حرب أوكرانيا، ثم أزمة المناخ العالمي والجفاف الذي ضرب دول أفريقيا، فانضاف كل ذلك على اتهامات التلاعب بالديمقراطية، والفساد، والتبعية للأجانب، التي تلاحق رؤساء أفريقيا عموما.
غير أن الانقلابات العسكرية تدفع هذه التناقضات إلى أقصاها، فردا على الاتهامات المتعلقة بالتصويت والانتخابات يتم عمليا إلغاء النظام الديمقراطي برمّته ويستلم الحكم أشخاص غير منتخبين، يفهمون العالم بطريقة الأمر العسكري، وهو انحدار سياسي مريع بمقاييس الحضارة والمدنية وطريق لانسدادات اقتصادية، وفساد أكبر، وبعد أن كان الرئيس يفوز بـ63٪ من الأصوات، يضع ضابط نفسه فوق الانتخابات، والأحزاب، وفوق الشعب نفسه.
يستغلّ الانقلابيون، أيضا، الكراهية الشعبية الكبيرة للاحتلال الفرنسي القريب زمنيا، والذي يستمرّ بأشكال عسكرية وسياسية عديدة، لكنّ التناقض هنا، أن المجموعات العسكرية التي قبضت على السلطة في الغابون، وقبلها في النيجر، ومالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، تقوم باستدعاء استعمار جديد، متمثل بروسيا، وجنودها من مرتزقة شركة «فاغنر» السيئة السمعة، وبذلك يتم استبدال استعمار قديم بائس، باستعمار جديد أكثر بؤسا، ويتم استبدال نظم ديمقراطية ضعيفة، بنظم دكتاتورية قاسية ولا تلبث أن ترفع عصاها وبنادقها ومدافعها ضد شعوبها إذا حاولت الاعتراض.