ما لم يدركه الخبراء

حجم الخط
3

سيكون من قبيل الكسل الفكري ألا يستعد اليمين الأمريكي لاختراع مفكرين جددًا يخرجون بنظرية سياسية بديلة تنفخ الحياة في لعبة الأمم بعد أن يكتمل سقوط نظرية صمويل هينتنجتون سريعة العطب.
قد يبدو هذا الرأي إفراطًا في التفاؤل في لحظة تبدو خطة ‘الإسلام العدو’ فعالة وتحقق المرسوم لها، بتفجير في أمريكا ومذبحة في سورية، لكن العمق الكامن خلف المظاهر يشي بتبدد النظرية التي صارت مثل انشطار نووي منفلت يأكل الكثير في طريقه بما في ذلك النظرية نفسها.
كان التطبيق القنوع للنظرية يقضي بخلق تنظيمات إرهابية وتنظيمات مقاومة على أساس ديني تدير التفجيرات في الغرب أو تهاجم إسرائيل فتجرحها دون أن تؤلمها من أجل مزيد من الاستنزاف للمنطقة العربية وتحقيق التماسك الهش بين الأعداء (الفقراء والأغنياء) في الغرب.
وكان من شأن هذه التنظيمات الطامحة للحكم أن تدهس في طريقها الفكرة والدولة الوطنية في العالم العربي لصالح الفكرة والكيان الديني، بحيث لا تكون إسرائيل الكيان الديني الوحيد. وبحيث ينسى العرب أصل الاستعمار الاستيطاني واستحقاق الأرض ويصبح الدفاع عن مسجد بناه البشر أهم من البشر أنفسهم، ويصبح الضريح الافتراضي لجثمان فرد غير موجود بداخله أهم من حياة شعب.
اشتغلت الفكرة بشكل جيد سنوات طويلة بفضل وجود ديكتاتوريات علمانية في السلطة وفاشيات إسلامية تزايد عليها في مواقف الصمود ضد إسرائيل، إلى الحد الذي أوقعنا في الإعجاب بما تفعله جماعات فاشية ترفع رايات التحرير التي لا ترفعها الدول.
ولم يكن لهذه الأساطير أن تسقط لولا الربيع العربي، على أن الفضل يعود في جزء منه إلى من تولوا تحويل نظرية الصدام مع الإسلام إلى تجربة معملية؛ فبعد أن استخفهم نجاح المنظمة الجهادية الصغيرة إندفعوا إلى تدمير الربيع العربي من خلال فبركة ‘الدولة الإسلامية’.
رغبة التغول لدى خبراء معامل البنتاجون حملتهم على مضاعفة المقادير وإغفال أثر درجة الحرارة في المعمل، أي البيئة الجديدة في العالم العربي التي لم يسمح صناع القرار الأمريكي لأنفسهم بفهمها حتى الآن.
كان كل همهم فبركة دولة الإسلام في مصر وتونس ورد اليمن إلى نقطة الصفر ووضع سورية على المرجل لحين النظر في أمرها، ولم يضعوا في اعتبارهم أن القوى التي قادت الثورات ليست هذه القوى المدعوة للتمكن من مصير العالم العربي، مثلما لم يتوقعوا حجم التناقضات بين السنة والشيعة من جهة ودرجات التناقض داخل المذهب الواحد من جهة أخرى، والأسوأ أنهم لم يتوقعوا حجم الجهل وانعدام الخبرة لدى تنظيمات التي استطاعت العيش على الشعار السهل عندما كانت في الهامش، ولكنها في ظلال ربيع الثورات صارت مجبرة على الاختيار بين الوفاء لشعارها وبين الاصطفاف مع مشروعها الحقيقي.
عندما كان حكم عائلة الأسد مستقرًا في دمشق، كان من السهل على حزب الله أن يحمل شعار الدفاع عن أمة ببشرها وأرضها ومقدساتها، وأن يسبغ من فائض شعبيته شيئًا من المشروعية على النظام السوري الحليف. لكن في وجود ثورة كان على الحزب أن ينحاز، وقد أعلن انحيازه الذي لن يبقي له شيئًا من الهالة التي صنعها في عقود.
السهولة نفسها كانت من حظ جماعة الإخوان في مصر، التي رفعت شعارات من تحرير القدس إلى تحرير مصر من حكم مبارك الفاسد والفاشل والعميل. وكان بوسعها أن تحتفظ بصورتها للأبد إن لم تدخل في تجربة الحكم التي وضعتها في موقع أسوأ من الموقع الذي وجد حزب الله نفسه فيه، إذ ليس لديها خياران فقط، بل ثلاثة: خيار تنفيذ شعاراتها، خيار الانحياز لقيم الثورة المختلفة عن شعاراتها، وخيار تنفيذ المهام التي كانت موكولة إلى مبارك، طالما حصلت على كرسيه دون استحقاق. وأهم هذه المهام الإبقاء على التبعية الاقتصادية لرأسمالية المركز وحماية إسرائيل.
ولم يكن أمام الجماعة إلا أن تختار الأسوأ، فتتنكر لشعارها وتتصادم مع الثورة فتحمل فوق الفشل اتهامات قتل الثوار ثم أخيرًا الاتهام المزلزل بالوصول إلى السلطة عبر جريمة الهروب المسلح من السجن. والاتهام المعلق هو إدانة كاملة، عندما يكون المتهم في موقع الحكم وبيده أن يقدم دليل براءته وبسرعة، بعكس كل الاتهامات التي لحقت بالجماعة عندما كانت معارضة.
بسبب واقع الفشل الاقتصادي الذي لا يمكن نفيه والاتهامات المعلقة بلا نفي أو إثبات، فكل ما حصلت عليه الجماعة حتى الآن هو التدمير السريع لشرعيتها ليس فقط بين الخصوم العلمانيين ولا بين الفقراء المستيقظين على الخديعة وإنما بين أطياف الفصائل الدينية الأخرى، وقد بدت الفروق بين الجماعات أكبر من إدراك خبراء معامل البنتاجون وأكبر من أن تسمح ببقاء فكرة الإسلام السياسي حية تتلاعب بمصائر شعوب ثارت لتعيش حاضرها لا لتغرق بحثًا عن نقطة ماء عذبة في بحر الماضي المالح.
وقريبًا جدًا لن تجد تجارة الدين زبونًا بين شعوب أنضجتها النار، وقريبًا جدًا يجب أن يبحث اللاعبون بالمصائر عن هينتنجتون جديد وملعوب جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جمال عبد الناصر:

    ملعوب جديد..
    بعد كل ده ؟

  2. يقول رشيد:

    ياسيدي لماذا هذا التحامل على الحركة الاسلامية التي تولت الحكم بعد ثورات الربيع العربي وفي انتحابات نزيهة لاول مرة؟وانت ترى انهم لم يتركوا لها فرصة للحكم بل انقض عليها الفلول ومن فقد امتيازاته وكل الانواع التي تدعي العلمانية واللبرالية كالذئاب الجائعة.بالاضافة لما خلفه النظام البائد من تركة ثقيلة ومعاهدات مكبلة واوضاع اقليمية مضطربة وضغط دولي،كل هذه العوامل تحد من فعالية الحكومة.

  3. يقول محجوب محمد:

    الاستاذ عزت
    نبش القبور لاعلاقة له بنظرية صمويل ، ارجع لكتب التراث . كيف قتل معاوية
    محمد بن ابوبكر وادخله في جوف حمار واحرقه ، وكيف ذبح الجعد في المسجد
    وكيف نبش بني العباس قبور بني امية ، التنظيمات تلك لم تخلق في معامل طبية
    يل هي غرس ماضي (مقدس ) حان اون نبشه كما تُنبش القبور .
    وسؤال اخير ياستاذ
    لماذا ندافع عن الاقصي ؟ هل يهمنا البناء والقبة ؟
    هل البناء والقبة ارقي واثمن ولاتضاهي بدماء وعذابات وحرمان الفلسطيينين ؟
    نبش قبر الصحابي الجليل (الغير موجود كما زعمت ) نذير شؤم لكل كبد رطب
    ولكل بني ادم كامل الانسانية وليس شعب فقط .
    والله لقد افزعني الحديدي وها انت تحبطني !!!!!!!!

إشترك في قائمتنا البريدية