منذ كتاباتها القصصية الأولى، ظل التعبير عن خلجات المرأة وإحساساتها وتمنياتها، وتناول دواخلها بشيء من الجرأة والشفافية، هاجس القاصة والروائية والمترجمة لطفية الدليمي، وليس مثل المرأة من يحدثك عن عوالم المرأة، فأنت مهما أوتيت حذاقة وبراعة، لست بمستطيع سبر أغوار هذه النفس النسائية، كما تسبرها المرأة القاصة، وتناول هذه الأحاسيس يحتاج إلى جرأة، وهذه الجرأة ما كانت معطلة عند القاصة لطفية الدليمي.
لقد قرأنا قصصها الأولى، فكان عالم المرأة مرتكزها الأول والأساس، والثيمة التي تدور حول جذرها كل قصصها، ففي «عالم النساء الوحيدات» مجموعتها القصصية الرابعة، كان البوح النسائي يمثل مرتكزا مهما فيها، ومن قبلها «ممر لأحزان الرجال» و«البشارة» وتكاد هذه المجموعات القصصية فضلاً عن مجموعتها «التمثال» تمثل مرحلة من التاريخ الطويل في كتابة القصة القصيرة، لدى القاصة لطفية الدليمي.
كان في هذه القصص حدث يتنامى، وكان فيها قص وزمان حكائي وسرد ومفردة موحية.غير أن مجموعتها القصصية «موسيقى صوفية» مثلت تحولا جذريا في عالم القص لديها، فما عادت قصصها «رابسوديات العصر السعيد» و«موسيقى صوفية» و«سليل المياه» التي ألقتها على مسامعنا في أمسية شتائية من أماسي اتحاد الأدباء في العراق عام 1994، تعتمد على أحداث تتنامى، بل أمست أشبه بحديث صوفي استذكاري، واستبطان للحدث وتجريده من مقومات الواقع المعيش، ونحت في كتابتها هذه وفي قصصها اللاحقة، التي ضمتها مجموعتها القصصية «ما لم يقله الرواة» التي أصدرتها (دار أزمنة) في العاصمة الأردنية؛ نحت في كتابتها منحى القصة الأوروبية الحديثة، التي كتبها ألان روب غرييه وناتالي ساروت ومارغريت دورا وأيتالو كالفينو في «المدن المرئية» و«حديث السيد بالومار» وغيرهم. كما أن فيها شيئا من عالم القصة الغرائبية السحرية التي كتبها كتاب أمريكا اللاتينية، ففيها فانتازيا فاجعة وفيها تهويمات صوفية منتزعة من عوالم الشرق، حيث البخور وشجر الصندل والعود الماليزي.
لقد جاءت القصص الثماني التي حوتها مجموعتها «ما لم يقله الرواة» لتؤكد المنهج القصصي الجديد، الذي اختطته القاصة، إذ صار بناء الجملة الشعرية طاغيا على النص، وانسحب الحدث وأخلى مواقعه، لكن هنا تتناول ثنائية الرجل والمرأة، الرجل الذي لو لم يتلاش في دخان الحرب.. لو أنه.. لكان الآن معها، ولأضحكها من تجليات خوفها، ولضحكا معا، لو أنه.. لاستسلما إذن لمباهج صغيرة، لهمسة، للمسة، لأحاديث، لاحتساء شاي أو فنجان قهوة، ولألقت برأسها على صدره وبكت من فرط امتلائها بالحياة، لو أنه.. لكنه الآن بعيد.. مسافر في الغروب الكبير، لو أن لها ابنا يشبهه، لكنهما الرجل والابن في غيب من الزمان بعيد، لم يعرفا حاضرها المضطرب، لوعتها، وحدتها، هما: الحقيقة والأمل.. ضاعا معا في الغسق ودخلا لعبة النسيان.
هذا الرجل المبحوث عنه يمثل، كما قلت، المحور في قصص هذه المجموعة، الرجل الذي قد يأتي ولا يأتي، والذي يقرر في النهاية المغادرة والرحيل، وترك المرأة تواجه قدرها وحدها، رغم قساوته وضراوته، فهو ينشد نجاة، والرحيل متاح وجواز سفره في جيبه، وباطل ما ترسمين، ولا تخبري أحدا ولا تعلني رحيلي، وأريد نسيان كل شيء، وحقائبي لدى مكتب السفر، وما عدت إلا لأقول وداعا. فبعد أن جلسا معا في مكان قريب من النهر، في ذلك المكان الفردوسي، وسط تعاويذ وموسيقى ومرايا ورخام ونفائس جلود ونحاس وفضة وحرير، لكنه كان قد قرر الرحيل، ليذهب إلى مدن الصخر، حيث في كل منعطف نظرة عداء، وفي كل رصيف رماد كراهية، والريح الغريبة تقضم أطرافك. هو يدخل ثقبا في جدار الريح، يمتصه الثقب ويقذفه في المتاهة.. تصعد إلى أعلى الجسر.. وخاتمه في بنصرها، بنصر اليد اليمنى، تسحبه تمسكه بسبابة وإبهام اليد اليسرى، وتلقي به في لجة النهر.
لطفية الدليمي في كل ما كتبته من قصص تقريباً، تنقل لنا عوالم المرأة المثقفة، التي تعاني العزلة والوحدة والخواء العاطفي، المرأة في قصصها قارئة مثقفة تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية.
تمتاز قصص مجموعة «ما لم يقله الرواة» بالوصف الدقيق لأحاسيس المرأة واستبطان دواخلها، والوصف الدقيق للمكان، وتسعف القاصة لطفية الدليمي في ذلك لغتها الشعرية، فأنت إذ تقرأ قصص هذه المجموعة، فضلا عن مجموعاتها التي أشرت إليها في صدر هذا الحديث، تكاد تقرأ شعرا، فلغة لطفية الدليمي لغة شعرية رقيقة موسيقية عذبة، قلما حُبِيت بها كاتبة أخرى، حقا إنها موسيقى صوفية تنقل القارئ إلى عوالم طقوسية خاصة، ولنقرأ معا هذا النص: «إنها كانت ذات حلم تحب رجلا، وذات حب حلمت بالسلام، وذات سلام حلمت بطفل، وذات… فقدتهم جميعا: الرجل وأخاه والطفل والحب والسلام، ضاع الرجل وراء أخيه، وأخوه وراء أرضه، وأرضه وراء حلمه وحلمه وراء الزمن… زمن.. زمن».
لطفية الدليمي في كل ما كتبته من قصص تقريباً، تنقل لنا عوالم المرأة المثقفة، التي تعاني العزلة والوحدة والخواء العاطفي، المرأة في قصصها قارئة مثقفة تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية ففي «رابسوديات العصر السعيد» تستمع المرأة إلى رابسوديات فرانز ليست، كما أنها في قصتها تغيب عن محاضرة الكاتب المسرحي توم ستوبارد، إنها في قصتها « جياد في الليل» تستمع إلى كاسيت يطلق سيلا من موسيقى جمعت فنونا لأمم شتى، موسيقى من مسرح الكابوكي الياباني، رقصة صيفية من عصر سلالة مينغ، أغنية هندوسية، تراتيل لبوذا، كما أن المرأة تستمع إلى موسيقى «بحيرة البجع» كذلك تستمتع بمشاهدة لوحة للفنان الإسباني غويا في قصتها «أخف من الملائكة» وهذا ما يذكرني بقصص القاص العراقي جليل القيسي، فأكثر شخوص قصصه مثقفون يقرأون الكتب والمجلات، ويستمعون إلى الموسيقى، ويتطلعون إلى اللوحات الفنية لكبار الرسامين.
ما يميز قصص هذه المجموعة كذلك، أنها تتكئ الواحدة على الأخرى حتى لتكاد القصص الخمس الأولى: «جياد في الليل» و«حمامة في الظهيرة» وشيفرات العصر الشمسي» و«شيفرة العاصفة» و«أخف من الملائكة» تكوّن رواية قصيرة يأتي ختامها في القصة الثامنة «الريح» وهو ما يعرف نقديا بـ«المتوالية القصصية» التي تختتم حوادثها برحيل الرجل وتركه المرأة تواجه مصيرها منفردة، حيث تقابل سفره وهجره لها، برمي خاتم الخطوبة في النهر، الذي يبتلع أحزانها وخيبتها بهذا الذي كانت تأمل بالعيش معه، هو الذي ستبتلعه مدن الغربة.. مدن الصخر والضجر.
كاتب عراقي