في نهاية الشهر الماضي، كان يتعين على الأرجنتين سداد قسط من قرض مستحق لصندوق النقد الدولي بقيمة 2.7 مليار دولار، وذلك للوفاء بشرط من شروط المراجعة الخامسة لوضعها الاقتصادي بمقتضى قرض التسهيلات الذي تبلغ قيمته 44 مليار دولار على 30 شهرا. وفي حال نجاح الأرجنتين في اختبار المراجعة الخامسة، فإن هذا يسمح لها بالحصول على شريحة جديدة من القرض. لكن المشكلة التي كانت تواجه الحكومة أنها لا تملك هذا المبلغ مع تضاؤل احتياطي النقد الأجنبي، وأن عدم السداد يعني توقف القرض. ولأن «الصديق وقت الضيق» فقد لجأت إلى الصين، للبحث في محاولة لتفصيل حل لتجاوز المشكلة.
وفي الأسبوع الأخير من أيار/مايو سافر وفد رسمي إلى بكين، يضم وزير الاقتصاد سيرجيو ماسا، ومحافظ البنك المركزي ميغيل بيسكي، حيث جرت اجتماعات في مقر بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) مع المحافظ يي قانع، الذي كان مزودا بتوجيهات لتسهيل مهمة الوفد الأرجنتيني، الذي يضم ماسا المرشح لرئاسة الأرجنتين، في الانتخابات التمهيدية التي ستجري الشهر المقبل.
وقد حققت الزيارة نجاحا كبيرا، حيث تم عقد صفقة متعددة الجوانب، تضمنت تجديد اتفاق مقايضة نقدية بين اليوان الصيني والبيزو الأرجنتيني لمدة ثلاث سنوات، ومضاعفة قيمة المبلغ المحدد للمقايضة من 35 مليار يوان إلى 70 مليار، أي ما يعادل 10 مليارات دولار، إضافة إلى السماح للأرجنتين باستخدام خط الائتمان المفتوح بين البلدين في أغراض أخرى غير تمويل التجارة المتبادلة، بما في ذلك سداد ما يعادل مليار دولار إلى صندوق النقد الدولي باليوان الصيني، والسماح للبنك المركزي الأرجنتيني بالتصريح للبنوك المحلية بفتح حسابات لعملائها جارية وتوفير باليوان، وهو ما يجعل اليوان عمليا عملة قابلة للتداول في السوق المحلية في داخل الأرجنتين، لتسوية المعاملات اليومية بين المواطنين وأطراف السوق المختلفة، والمساعدة على تخفيض معدل التضخم الصارخ في البلاد. كما اتفق الطرفان على تقديم مزايا وتسهيلات تجارية للمصدرين والمستوردين، من أهمها تقصير فترة تسوية المعاملات التجارية ماليا إلى 90 يوما بدلا من الأجل المعتاد الذي يصل إلى 180 يوما.
المقايضة النقدية
هذه الصفقة منحت الأرجنتين فرصة ثمينة لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب أولويات السياسة الاقتصادية، في الوقت الذي ما تزال فيه البلاد تعاني من آثار الجفاف، الذي كلف القطاع الزراعي ما يقرب من 20 مليار دولار، حسب التقديرات الأولية. وتعتمد الأرجنتين بصورة أساسية على صادرات هذا القطاع في الحصول على النقد الأجنبي. وفي الوقت نفسه، فإن الصفقة منحت الصين فرصة ثمينة أيضا، للتقدم خطوة أخرى للأمام، على طريق تحويل عملتها المحلية اليوان إلى «عملة عالمية» مقبولة في المعاملات خارج الحدود، وفي تسوية المعاملات مع أطراف أخرى، وألا يقتصر استخدام اليوان على تسوية المعاملات الثنائية فقط، كما يحدث عادة في استخدام اليوان طبقا لاتفاقيات المقايضة النقدية، عندما تستخدم العملات المحلية في تسوية المبادلات الثنائية، خصوصا في تمويل التجارة.
ونظرا لأن صندوق النقد الدولي كان طرفا غير مباشر في هذا الاتفاق، باستخدام اليوان الصيني في سداد جزء من مستحقات الصندوق، فإنه أضاف زخما جديدا إلى عملية عولمة اليوان، من خلال تحويله إلى عملة مقبولة لتسوية معاملات متعددة الأطراف، في الوقت الذي تتوسع فيه روسيا في قبول العملة الصينية لسداد مستحقاتها من تصدير النفط إلى دول أخرى مثل الهند وبنغلاديش وغيرهما. وكانت الصين قد بدأت عملية «عولمة اليوان» على حذر، على التوازي مع إطلاق مبادرة «الطوق والطريق» عام 2013. ولا تقتصر اتفاقيات المقايضة النقدية على المعاملات بين الصين ودول نامية فقط، وإنما تشمل دولا صناعية متقدمة، مثل اتفاقية المقايضة النقدية بين اليوان واليورو، التي تم تجديدها منذ أشهر لمدة 3 سنوات بقيمة 350 مليار يوان مقابل 45 مليار يورو. ومن ثم فإن الاتفاقية الجديدة بين بنك الشعب الصيني والبنك المركزي الأرجنتيني تنطوي على توسيع صيغة اتفاقيات المقايضة، والبدء في تحويلها من اتفاقيات ثنائية إلى اتفاقيات متعددة الأطراف. وحتى عام 2020 كانت الصين قد دخلت في اتفاقيات مقايضة نقدية بين عملتها والعملات المحلية مع 41 دولة حول العالم، بقيمة وصلت إلى ما يعادل 3.5 تريليون يوان (حوالي 554 مليار دولار). ومن أهم الأطراف المشاركة في هذه الاتفاقيات دول جنوب شرقي آسيا مثل كوريا الجنوبية، بما يعادل 180 مليار يوان (29 مليار دولار) وسنغافورة بما يعادل 150 مليار يوان (24 مليار دولار).
التجارة المشتركة
ويسمح الاتفاق الصيني-الأرجنتيني الذي تم إعلانه في بداية الشهر الماضي، بأن تستورد الأرجنتين من الصين ما يعادل مليار دولار شهريا، مع سداد ما يقرب من 80 في المئة من قيمتها باليوان بدلا من الدولار. وقد بدأت الأرجنتين بالفعل باستخدام هذه الصيغة في تمويل تجارتها مع الصين اعتبارا من بداية الربع الثاني من العام الحالي. كذلك يسمح للاتفاق للصين بسداد مقابل وارداتها من الأرجنتين باستخدام البيزو في حدود المبلغ المنصوص عليه في الاتفاق. وطبقا للإحصاءات الدولية، فقد بلغت قيمة صادرات الصين للأرجنتين في عام 2021 حوالي 12.6 مليار دولار، أهمها أجهزة الكمبيوتر والآلات والأجهزة الكهربائية، في حين بلغت قيمة صادرات الأرجنتين إلى الصين في العام نفسه حوالي 6 مليارات دولار، أهمها فول الصويا واللحوم. وقد حققت التجارة المتبادلة بين البلدين نموا بنسبة بلغت حوالي 12 في المئة خلال الـ 25 عاما الأخيرة. وأصبحت الأرجنتين شريكا تجاريا مهما للصين، خصوصا وأن هيكل صادراتها يتماثل تقريبا مع هيكل واردات الصين من الولايات المتحدة. ومن ثم فإنها تعد منافسات حقيقيا للصادرات الأمريكية من اللحوم والحبوب إلى الصين.
دور صندوق النقد الدولي
أصبح اليوان عملة دولية رسميا في تشرين الأول/أكتوبر عام 2016 بعد أن أعلن صندوق النقد الدولي أن العملة الصينية قد استوفت معايير الانضمام إلى سلة العملات الدولية الرئيسية، التي تتكون منها العملة الحسابية للصندوق التي تسمى «وحدات حقوق السحب الخاصة – SDR)» وعددها خمس عملات حاليا، هي الدولار، واليورو، واليوان، والين، والاسترليني. ويتم إعادة تقييم العملات، ووزن كل منها في قيمة حقوق السحب الخاصة مرة كل 5 سنوات. وكانت المرة الأخيرة في أيار/مايو من العام الماضي. وتم على أساس المراجعة الأخيرة زيادة وزن اليوان إلى 12.28 في المئة مقابل 10.92 في المئة عندما قرر الصندوق ضمه إلى سلة العملات الدولية. وبذلك فإن التوزيع النسبي لوزن العملات الخمس في الوحدة الحسابية الواحدة للصندوق طبقا للتعديل الأخير هو على الوجه التالي: الدولار بنسبة 43.38 في المئة، واليورو بنسبة 29.31 في المئة، واليوان بنسبة 12.28 في المئة، ثم كل من الين الياباني والجنيه الاسترليني بنسبة 7.95 و7.44 في المئة على التوالي. ويظهر توزيع الأوزان النسبية للعملات أن الدولار يتربع على قمة النظام الدولي بلا منافس في الوقت الحاضر، وإن كان الميل العام يشير إلى تراجع هذا الوزن، خصوصا بعد نشأة العملة الأوروبية الموحدة اليورو.
وبمقتضى تصنيف عملة بلد ما ضمن سلة العملات الدولية لصندوق النقد الدولي، ووزنها داخل وحدة حقوق السحب الخاصة، تصبح تلك العملة واحدة من عملات الاحتياطي النقدي الدولي للبنوك المركزية حول العالم. ويعتمد تصنيف صندوق النقد الدولي لقوة العملات على عاملين أساسيين، العامل الأول هو حجم التجارة الدولية للدولة صاحبة العملة، ونسبتها في التجارة العالمية. والعامل الثاني هو حرية وشفافية التحويل من العملة المحلية وإليها مقارنة بغيرها من العملات ومدى انفتاح نظامها النقدي ودرجة الثقة فيه عالميا. ولهذا السبب فإن اليوان، على الرغم من أن الصين هي القوة التجارية الأولى في العالم، يحتل مكانة أقل من الدولار واليورو في سلة العملات الدولية، وذلك نظرا إلى ضعف مستوى النظام النقدي في الصين، وانخفاض درجة شفافيته والثقة فيه وقبوله في تسوية المعاملات الدولية، بين الأطراف الأخرى، خصوصا انخفاض نسبة استخدامه في المعاملات غير التجارية، مثل إصدار السندات، والتأمين والعقود المالية الآجلة.
الثقة في اليوان
ومن ثم فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه اليوان في السوق العالمية يتمثل في تحرير السوق المالية الصينية، ورفع مستوى كفاءتها، وتنويع مشتقاتها، وزيادة الثقة في استخدام اليوان لتسوية المعاملات المتعددة الأطراف بين دول أخرى غير الصين، وقدرة البنك المركزي الصيني على أن يصبح واحدا من البنوك المركزية الرئيسية حول العالم، البارعة في استخدام أدوات السياسة النقدية الملائمة لمواجهة الأزمات والتقلبات التي تنشأ من آن لآخر. وفي هذا السياق فإن السلطات النقدية والاقتصادية في الصين تتبنى برنامجا جريئا للمساعدة على زيادة الثقة في اليوان، وتوسيع نطاق تداوله على مستوى العالم. لكن العملة الصينية ما يزال أمامها طريق طويل يتعين أن تقطعه لكي تصبح العملة الثانية بعد الدولار، قبل أن تكون منافسا حقيقيا يهدد عرش العملة الأمريكية التي تسكن في المركز الأول. من هذه الزاوية، فإن اتفاقية استخدام اليوان لسداد جزء من الدين المستحق لصندوق النقد الدولي لدى الأرجنتين، تحتل أهمية خاصة بوصفها سابقة مهمة يمكن القياس عليها فيما بعد بواسطة دول أخرى. كذلك فإن توجه دول أخرى، مثل مصر إلى إصدار سندات دولية مقومة باليوان الصيني، يمثل أيضا خطوة إضافية، تعزز دور اليوان في أسواق الأوراق المالية العالمية. وفوق كل ذلك، فإن الاتفاق في حال نجاحه، من شأنه أن يعزز فرص المرشح الرئاسي الحالي سيرجيو ماسا، الذي يشغل أيضا منصب وزير الاقتصاد، في الفوز بالرئاسة، وهو ما يفتح للصين نافذة جيوسياسية مهمة في الأرجنتين، وتسجيل نقطة كبيرة لمصلحتها في الحرب الباردة مع الولايات المتحدة.