لقد مرّ عقل التنوير من هنا كمحارب أنهكته المعركة، ولو انتصر التنوير لأزاح الظلام، ولما ظهرت الأصولية وملأت الدنيا واستولت على الشارع والمدرسة والجامعة والدولة، ما عجل بتعطيل العقل وحرمانه من جدل التاريخ، وصدمته بأزمــــة الفـــكر العـــربي، الذي عاد إلى دراســـة التراث بالتراث من أجل التراث، فأضحى همـــه الوحيد هو تطبيق تلك المناهج الحديثة على تراث ميت، فجاءت هذه المحاولات الخجولة، لتشكل ما يصطلح عليه بعصر النهضة العربية، التي لم تتجاوز حدود السؤال، «لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ ولم تكن الإجابة سوى تكرار لما روج له الغزالي الذي يرى في الإسلام الحل.
فالنهضويون العرب لم يقدموا للتراث خدمة جديدة، بل عجّلوا بظهور حركات الإسلام السياسي، ثم التنظيمات المتطرفة، ذلك أن جهودهم قامت بتقوية التيار الجهادي بمثل هذه القوة والعنف .كل الشروط في إنتاج المعنى وكيفية انتشاره واستهلاكه من قبل مجتمع الاستهلاك والجهل المقدس، كان سببها تقديس التراث وإدماجه في الحياة اليومية، حتى إن لم يفهم، ما عجّل بانفجار الحركات الأصــــوليــــــة «لو أن التراث العربي الإسلامي تعرّض لمسح تاريخي شامل، ولإضاءة نقديـــة تاريخية شامــــلة، لما حصــــل لاحقا… ونجح التنوير الإسلامي». ونال الصمت من حماس الاستشراق وانطفأت منهجيته الفيلولوجية التاريخية التي قسّمت التراث العـــــربي إلى قطع، من أجل دراسة نجاحه وفشله، ومعرفة كيف ظهرت الفلســـفة في هذا الفضاء، وتألق بعض الفلاسفة العرب، إلى درجة اقتحامهم للإبيستيمي الأوروبي، فابن رشد كان يشكل عقدة الاستشراق، لو أحصينا ما كتب عنه في الأفق الأوروبي، لكانت الصدمة عنيفة، بيد أن الفكرة الأساسية التي تنتشر في هذه الدراسات الرشدية، يمكن صياغتها في سؤال مهم «لماذا فشل ابن رشد في الإسلام، ونجح الأفق المسيحي؟ فهذا السؤال كان قادرا على احتلال مساحة واسعة من منطقة المعنى، وأضحى ابن رشد مجرد وسيط قام بربط أوروبا بتراثها الإغريقي.
حان الوقت لكي يتعلم العقل العربي أن النظام الفكري للحداثة غير النظام الفكري للعصور الوسطى، فالاستمرار في سجن الفضاء العقلي للقرون الوسطى، وإحياء تلك المفاهيم الميتة التي أنتجها فكر التهافت، سيحكم أنطولوجية العقل بالدوران خارج دائرة التاريخ والعلم الحديث.
لا أريد أن أتحدث عن هذا الكسر الدائم الذي أصاب الكينونة العربية، وأرغم العقل على الحداد ورهانات المعنى المبتذل في كلمة العنف والجهاد، ولذلك انزاح العقل العربي عن الثلاثية المشهورة «الترجمة، الشرح، الفلسفة « ليؤسس مع الغزالي وابن تيمية ثلاثية أخرى «العنف، التقديس، الحقيقة»، ولذلك أضحى جدل الفكر مغايرا لجدل التاريخ، بل إن الأمة العربية بدأت تنمو عشوائيا خارج التطور التاريخي. والحال أن الجدل تحول إلى هدف، ولم يعد مجرد وسيلة من أجل إنتاج المعنى والقوة.
لا بد من نقد العقل الجدلي كما تركه الغزالي، وبناء نقد العقل الخالص لكي نتجاوز حرب الخطابات والمناظرات الكلامية، التي أدت إلى شرعية استعمال العنف الجسدي، ما أضعف الأمة وجعلها فريسة للعدو الحقيقي، ذلك أن تحديد مفهوم الحقيقة من جديد وتحريرها من سجن التراث، والسماح للعقل بالبحث عنها خارج الإكراه الأخلاقي والديني، سيؤدي إلى موقفين للعقل «موقف ميتافيزيقي كلاسيكي، وموقــــف ابيستيمولوجي حديث، هكذا سيصبح العقل العربي في طور الانبثاق والتشكل، ويدير ظهره لكل تراكم سلبي أبدعه الفكر الأرثوذوكسي، الذي شرع لإلغاء التاريخية، تاريخية العقل وتاريخية الفكر .
وقد حان الوقت لكي يتعلم العقل العربي أن النظام الفكري للحداثة غير النظام الفكري للعصور الوسطى، فالاستمرار في سجن الفضاء العقلي للقرون الوسطى، وإحياء تلك المفاهيم الميتة التي أنتجها فكر التهافت، سيحكم أنطولوجية العقل بالدوران خارج دائرة التاريخ والعلم الحديث. لا يستطيع الفكر أن يتقدم إلى الأمام والسلاسل تعتقله، ومادام جدل العقل والتنوير تظل أمور الدين يتحكم فيها الفقهاء، وبخاصة أعداء الاجتهاد، الذين حكموا على العقيدة بقواعد دوغمائية ينبغي تكرارها إلى الأبد، من قبل المؤمن من أجل أن يرضى عليه الزعيم. فنواقص هذه القواعد غالبا ما تكون سياسية، وليست دينية.
لم يعد التفكير في هذا العصر ممكنا إلا داخل براديغم القرون الوسطى، ولعل بذور العقل الأسطوري اللاهوتي قد جرّت الفكر إلى أزمة بنيوية من المستحيل حلّها بالتراث، ذلك أن التراث نفسه في أزمة، بعدما فقد تلك المناطق المضيئة فيه، وأضحى سردا كرنولوجيا لتاريخ الإسلام من البداية إلى النهاية، معتبرا أنه يقوم بواجبه المقدس. ومن الطبيعي أن يختصر التاريخ في مفهوم واحد وهو مفهوم الحرب المقدسة، التي تحولت إلى سياسة تسير بها الدولة، وتروج لها بواسطة أئمة المساجد. ولكن ما علاقة كل هذا الانحطاط الفكري بالدين؟ وأين هي أمة المعرفة والعلم ومحبة الحكمة والعمران والأدب؟ ولماذا كل هذا العنف المقدس ضد العقل؟ وما هي أهدافه البعيدة؟
٭ كاتب من المغرب
فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم، ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغثّ، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم *أبو حامد الغزالي
هل هذا القول واضح ام يحتاج الى توضيح لمن يدافعون عن الغزالي فقط لانه رجل دين ولكن هذا لا ينفي ان الرجل له اراء وحكم مقبولة رغم فتواه التي تدعو الناس الى الابتعاد عن الفلسفة والعلوم الاخرى والاهتمام بعلوم الدين وهذا ما دعا البعض الى اتهامه انه السبب الرئيسي بتخلف المسلمين
اخ سلام، للإمام الغزالي نحو 200 كتاب وهو فعلا بحر مغدق، وليس من المنطقي اجتزاء سطر من أحد كتبه والاعتماد عليها في تكوين موقف نهائي وموضوعي ومتوازن لفكر الغزالي. هذا بصراحة غير منصف لعقلية متطورة جمعت مختلف العلوم وناقشت قضايا المعرفة والوجود والفقه والأخلاق والتربية والسياسة والكلام والفلسفة والأصول في عصره .
المعرفة نوعان: معرفة واقعية تجريبية وهذا هو اختصاص العلم التجريبي بشقيه الطبيعي والاجتماعي، ومعرفة اخلاقية وهذا ليس من اختصاص العلم بل هو مجال الفلسفة حيث الاراء تتلاطم والشك يتفاقم. السبب هو ان الفلسفة بطبيعتها جدلية ولا تزيد الانسان الا ريبة وعدمية اخلاقية. الغرب وصل لهذه المرحلة فلم يجد بدا من عبادة الانسان وتقديس رغباته حتى ولو كانت سخيفة ومتناقضة وغير عقلانية. وما التسامح مع الشذوذ والمخدرات والبغاء والمسكرات والاجهاض والقتل “الرحيم” الا مظاهر من هذا السفه. ويغطي هذا السفه طبقة خادعة من المخترعات التقنية المبهرة.