يبدو أن الرئيس الفرنسي أراد إعطاء درس – لن أذهب إلى حد التلقين – في حسن السلوك الدبلوماسي لنظيره الأمريكي على صورة ذكرتني بعبارة أدبية تعود إلى النصف الأول من القرن الماضي، روجها من سينعت لاحقا بعميد الأدب العربي، طه حسين :
“ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني “.
لو جاز لنا أن نقتبس من هذه العبارة لنطبقها على الوقائع التي جرت، أمكن لنا أن نختصر موقف الرئيس الفرنسي من مجازفة بايدن الكلامية في مقولة “ما هكذا تؤخذ اللقمة الدبلوماسية يا بني!”…. أجل، فليس “الجزار” و”هذا الرجل لا يمكنه البقاء في الحكم” مجرد كلام لا دبلوماسي بامتياز، اختلف التأويل بشأنه خلال الساعات الأخيرة، اعتبارا من المتحدث الرسمي باسم الكرملين الذي نسبه إلى “تعب بايدن و تقدمه في السن” قبل أن ينهي بايدن الجدل نفسه متماديا في تهوراته اللفظية.
أجل…”ما هكذا تؤخذ اللقمة الدبلوماسية” ! فلا “كذب” ، ولا “جزار” و لا “لا استمرار في الحكم” عبارات تنتمي إلى الحقل الدلالي الدبلوماسي، ولا يمكن لشخص مثل بايدن أن يتجاهل الأمر. فالرجل ذو باع طويل، يمتلك خبرة مرسخة في القضايا الدولية، خبرة كان لها وزنها في وصوله إلى سدة الحكم. فما الذي جرى حتى رأينا له تهافتا على نعت خصمه بأوصاف أقرب إلى كلام المواطن العادي منها إلى كلمات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؟
من المراقبين من ذهبوا إلى فرضية أن بايدن سعى بطريقة غير مباشرة لتحريض الرأي العام الروسي على رئيسه في استراتيجية هادفة إلى خلق أجواء انقلابية…أقول “أجواء انقلابية” على أساس أن نفس خبرة بايدن لا يمكنها أن تتركه في حالة من السذاجة بحيث يستمر في الإيمان بالقدرة على الاستثمار في العلاقات الدولية بذات المعايير المعتمدة في الستينيات و السبعينيات حينما كانت الإدارة الأمريكية تسعى إلى قلب حكم فيدل كاسترو وأمثاله…
كما طرحت فكرة مدى اتساق الموقف الأوروبي مع الموقف الأمريكي و إذا ما كانت هناك فوارق جذرية بينهما. فمن المراقبين من اتخذوا من الموقف مناسبة للعودة إلى قصة فرنسا والقيادة المدمجة لمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي من المعروف أن الجنرال ديغول كان من أعتى الدعاة إلى مغادرته، و هو ما فعله فعلا، محاولا استبدال التوجه الأطلسي لفرنسا بخط استقلالي.
لكن أي خط استقلالي يمر عبر الاستقلال الدفاعي، بعبارة أخرى الاستقلال العسكري، وأي استقلال عسكري أوروبي يمر كما هو معروف عبر إنشاء قوة تدخل عسكري، و هو ما لم يتم حتى الآن.
وأي خط استقلالي يمر، أيضا، عبر حد أدنى من التوافق الدبلوماسي بين دعاته. هنا، المساحة مفتوحة لرصد طبيعة العلاقات الفرنسية الألمانية، تلك الشراكة التي وصفت تاريخيا بالـ”ثنائية “… إلى أي حد لم تتخلخل دعائمها بمرور الأيام و إلى أين تتجه من الآن فصاعدا؟ سؤال تطرحه الأزمة الحالية أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع انعدام توفر المستشار الجديد أولاف شولتز على الخبرة الدولية التي كانت ستسمح لأنجيلا ميركل، الألمانية الشرقية التي تتحدث الروسية، بالدخول على خط الأزمة لو استمرت على سدة الحكم.
مشروع نوردستريم 2 الذي بقيت ألمانيا تتعلق به لأغراض استراتيجية، ظل شوكة في خاصرة الصف الأوروبي وعقبة في وجه قدرته على التكلم بصوت واحد على خلفية أزمة كشفت واحدة من أكبر نقاط الضعف لديه
صحيح أن مشروع نوردستريم 2 الذي بقيت ألمانيا تتعلق به لأغراض استراتيجية معروفة، ظل شوكة في خاصرة الصف الأوروبي وعقبة في وجه قدرته على التكلم بصوت واحد على خلفية أزمة كشفت واحدة من أكبر نقاط الضعف لديه: فشل المجموعة الأوروبية في إنشاء قوة للتدخل العسكري.
هل كان سيتجرأ بايدن على التحدث بذات الطريقة لو وجدت قوة أوروبية رادعة متماسكة عسكريا قادرة على فرض نفسها ؟
إلى من ربط تصريحات بايدن بزلة لسان، نقول إن ما بدا مزالق لعدد من المراقبين لم يعد كونه مأزقا، عملا بالمٱل الحتمي لدبلوماسية الانفعال الذي ظهر بايدن كواحد من رموزها…في مقابل هدوء بوتين البارد.
تكشف دبلوماسية “الأقوال قبل الأفعال” الثغرات تحديدا لأنها تهدف إلى سدها…لكنها لا تسدها طويلا: أمريكيا، ينكشف شلل من لن تواتيه نفسه على تجاوز توازن الرعب بالمخاطرة النووية. أوروبيا، يتجلى التصدع بين من يعلق مقاصده على ضرورة الحفاظ على علاقة حسن جوار مع روسيا ومن يرى البديل لها ممكنا، خاصة في سياق يظل فيه الاعتماد على الطاقة البديلة أمرا استثنائيا، أما روسيا، فتتكشف حدود البروباغندا الأبدية لنظامها بقدرما تمر الأيام، في سياق ينتمي فيه الخطاب السوفييتي القديم إلى بقايا عقلية تكشف شياطين ماض لا أحد قادر على إجهازه حتى الآن…وإن أمكن له نظريا أن يفعل، مثل ألكسي نافالني، فمصيره الاحتجاز.
“ما هكذا تؤخذ الدبلوماسية يا بني…” !
بكل تأكيد، لو عدنا إلى إخفاقاتنا الجماعية السابقة، اتفاق منسك وصيغة نورماندي على سبيل المثال ولا الحصر … يتبين بوضوح أن هذا التشخيص ينطبق على غير بايدن أيضاً.
٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بعد قراءة مقالك ( شبه الدبلوماسيّ ) دندن في خاطري يامسيو ببيرريمون النشيد الرابع عشر من جحيم دانتي الذي يقول : { وصلنا صامتين إلى مكان…حيث ينبجس من الغابة نهرصغير…ومن مستنقع الكبريت ينطلق جدول…حيث تتقاسمه المذنبات…وهكذا كان ذلك الجدول…يفور متدفقًا عبرالرمال }.
السيد بيير لوي ريمون العبارة لم يروجها طه حسين بل جاءت في كتابه الشهير (الأيام)
لكن السؤال المهم الذي كان يُطرح: لوْ أنَّ عائلةَ طه حسين عاملتْهُ معاملةً خاصةً هل كانَ سينجحُ في حياته؟ كان عليك إذن في المقابل محاولة الإجابة على السؤال: لو أن ماكرون سلك مع بايدن السلوك الدبلوماسي الخاص هل كانَالأخير سينجح في مهمته (الديلوماسية)؟
دائما ما تكون الدعوات دعوات لانشاء تكتل عسكري هنا ، او قاعدة حربية هناك ، اعني كل ما يهدف لترويع و تشريد و ابادة الانسان!
استغرب لماذا لا تكون دعوة العقلاء دعوة للتخلص من هذه التكتلات القاتلة و استبدالها بتكتلات تنشر و تروج للحياة و الرخاء و المرح الانساني.
لماذا يظل الانسان ذئب الانسان؟!
كل اسبوع انتظر مقالك. أنت كاتب خمسة نجوم.معجب بأسلوبك المتوازن في زمن قلق.رمضان كريم.