لم أزل أؤمن على الرغم من الهزائم والإحباطات المتكررة، وما تشير إليه الحوادث المتتابعة والمتواترة، بأن ذاكرةً جمعية ما زالت قائمةً في مكان ما، مذكراتٍ أو مدونات، أو حتى في الصدور، في صورة تراثٍ شفويٍ تتناقله الأجيال، أو على الأقل أن هذه الذاكرة ممكنة، على الرغم مما عُرفت به حارتنا من آفة النسيان.
وربما جاء التغيير النوعي في الوعي والذاكرة المصريين، نتيجة التدهور النوعي في مستوى ونوعية القمع والرداءة غير المسبوقة في النظام، وفي العينات التي باتت تحكمنا.
حيةٌ في ذلك التراث الذي لم يزل يتناقله من عايشوه ومن حرروا بسببه ذكرى المستشار المحترم الراحل حكيم منير صليب، الذي حكم ببراءة 176 متهماً في قضية أحداث 18 و19 يناير التي عُرفت بانتفاضة الخبز. مما يُروى حينها ويتناقله التراث الشفوي (لا أعلم يقيناً مدى دقته أو مطابقته للواقع إلا أنه استقر في ذلك التراث) إنه حين سأل أحد ممثلي الأمن عن أدلتهم رد عليه الأخير بأنهم ضبطوا وحرزوا أوراقاً ومنشورات فلم يكن منه إلا أن رد مستنكراً مستهجناً ما معناه: ما هو هذا النظام الذي تسقطه بعض الأوراق؟!
حضرتني هذه الواقعة أو اللحظة المنيرة، في الحقيقة، في تاريخ القمع الممتد الذي لم نزل نعيشه، بعد أن أقدم نظام السيسي على احتجاز واعتقال رسام الكاريكاتير أشرف عمر بسبب رسوماتٍ ناقدةٍ للنظام. لمن لم يعرفه حتى الآن لا بد في البداية من التأكيد على أن وصفه أو تعريفه بأنه «رسام كاريكاتير» اختزالٌ مخل، فهو مثقف كبير ومترجم شديد الأهمية، وعازف جيتار، أي أنه كتلةٌ طبيعيةٌ من المواهب. كنتيجةٍ عكسيةٍ غير مقصودةٍ بالمرة، أقبل الناس الذين لم يكونوا يعرفونه، ولم يروا رسوماته من قبل عليها، حيث ينتقد النظام بأنه يبيع أرض مصر وأن جنوده وشرطته يجلدون المواطن المعدم الذي يجر «المونوريل» كالحصان وأنه يطفئ نار الديون بخرطومٍ يستقي من القروض وما أشبه. ليست بالمرة الأولى، وللأسف يتأكد أنها لن تكون الأخيرة التي يقدم فيها النظام على تعدٍ وعصفٍ بالحريات، لكنها بالإضافة إلى كونها محملةٌ بالدلالة فإنها تثير العديد من التساؤلات.
فلماذا رسام كاريكاتير ولماذا الآن؟
بدايةً إن النظام لم يكتف بالاستحواذ الفعلي والسيطرة على كل وسائل الإعلام، بل بطش بكل منتقديه ولا يثير نقمته أي شيءٍ أكثر من صوتٍ يفلت رغم ما يحسبه سيطرةً كاملة؛ لكن لدى التأمل، يتبين مدى خطورة الكاريكاتير، فهو صورةٌ مرئية ومختزلة توصل رسالة بإيجازٍ… هي لقطةٌ جامعةٌ تلخص مقالاتٍ وتعبر عن موقفٍ سياسيٍ ومدرسةٍ برمتها وتصل للجميع، إذ لا مجال فيه للتقعر أو الفذلكة، بل هو صفعةٌ.. ومضة برق خاطفةٌ وكاشفة، توقظ الرائي وتنير العتمة وتريه الزوايا الخافية. لا يحتاج المتلقي لثقافةٍ عميقة أو تراكمٍ معرفي، بل كل ما يحتاجه عينان وذهنٌ متيقظ وقابليةٌ للتلقي. إن رسمةً من شأنها أن تقوض تلاً من الأكاذيب، كما أنها تسفه النظام، أو رجالاته، أو كليهما، ونظامٌ عصابي كنظام السيسي والسيسي نفسه لا يتحملان من يبرز تفاهتهما وضحالتهما. في صدفةٍ لا تخلو من طرافة، أتى هذا الاعتقال وقد نشرت لتوي مقالاً عما سميته «الجهل المناضل» حيث وصفت بها تلك الذهنية أو الحالة النفسية التي تستبد بالسيسي ومن يختارهم من الرجال، فهم مصممون على التبجح بالجهل، وكأي نظامٍ شمولي يرغبون ويحاولون احتكار المعلومة والسردية، فهم لا يتحملون أي نقدٍ أو رواية تغاير أو تشكك في روايتهم، ويقلقهم ويجرح ذواتهم ويثير مركبات نقصهم، أي نقدٍ من شأنه أن يفضح جهلهم وتفاهتهم. ليست صدفةً هنا أيضاً أن شخصاً كأشرف هو النقيض تماماً (الذي يثير غيرتهم وحسدهم دون شك) لكل ما يمثلونه، فهو متعلمٌ مثقفٌ مرهفٌ متعدد المواهب لطيف واعٍ بمجتمعه، متصلٌ مع الناس شاعرٌ بهمومهم ومعاناتهم معبرٌ عنها بفنٍ وحرفيةٍ عالية، هو المثقف العضوي المنتمي في مجتمعٍ آخذٍ في التفسخ على مشواة الفقر والقمع والبيع الفعلي للبلد، كل ذلك مقابل جهلهم وتبلدهم وجلافتهم، هو إنسان المستقبل الذي نحلم به وهم يمثلون ماضي القمع لنظام «زومبي»، ميتٌ يأبى الموت والدفن، وهم إذ يعتقلونه وآلافٍ غيره يئدون المستقبل ويغرسوننا أعمق في المستنقع.
السيسي لم يكتف بالاستحواذ الفعلي والسيطرة على كل وسائل الإعلام، بل بطش بكل منتقديه ولا يثير نقمته أي شيءٍ أكثر من صوتٍ يفلت رغم ما يحسبه سيطرةً كاملة
من المهم أيضاً أن نقرر عدة من النتائج على ضوء هذا الاعتقال الأخير:
كنا نتساءل أو نرجو أن تهدأ الأمور قليلاً وأن يخفف النظام من قبضته الباطشة الغشوم، إلا أنه يقدم لنا الدليل تلو الآخر بأن تلك محض أوهام، فهو أكثر اتساقاً من ذلك والبطش والرعونة والغلظة والجلافة من أخص خصائصه وأكثر ثوابته استقراراً. ليس لدى السيسي مجالٌ لـ»التسلية» كما كان الحال مع مبارك، بل إنه يؤكد أن سياسته هي zero tolerance، أي أن المتاح للتحمل صفر، خاصةً كما أرجو أن تكون أي شكوك أو خلافٍ على دمويته و»البارانويا» التي يعاني منها قد زالت، فهو لا يقبل بأي سخريةٍ أو انتقادٍ لشخصه المتعالي البتة. من ناحيةٍ أخرى، وبعيداً عن الأوهام، فإن ذلك يضاف إلى شواهد على توترٍ ما في أروقة النظام، فالأزمة الاقتصادية مستعرة والأسعار مرشحةٌ لارتفاعٍ جديد أكيد وسط تكهنات بتخفيضٍ جديد لسعر الجنيه. بات واضحاً أن الفترة المقبلة ستشهد المزيد من احتدام وتصاعد العنف والتدهور الخانق للاقتصاد والأوضاع المعيشية، وعلى الأغلب سيزيد ذلك من بطش النظام كأي وحشٍ جريحٍ يشعر بالقلق والتهديد.
لكن في الحصيلة ومن وحي يناير 77 وتلك المحاكمة، وعلى الرغم من كل ما سبق أو في ضوئه لا بد لنا أن نسأل: أي نظامٍ هذا الذي تهدده وتسقطه رسوم كاريكاتير؟!
كاتب مصري