لدراسة تاريخ سينما ما، لبلد أو مجتمع محدد، قد يميل الدارس إلى تقسيم السيرة التاريخية إلى مراحل، فيساهم، غالباً، السياقُ السياسي والاجتماعي لهذا البلد، أو ذلك المجتمع، في فهم التقسيم السينمائي. في الحالة الفلسطينية، ولالتحام السياقات الثلاثة بمسيرة السينما الروائية الفلسطينية، يساهم التقسيم التاريخي إلى مراحل في فهم أشمل لمسيرة هذه السينما، يعود ذلك أولاً إلى تفاوت مراحل في التاريخ المعاصر للفلسطينيين، وتباينها، تاريخياً، وثانياً إلى التصاق السينما بهذه المراحل عاكسةً لها بإخلاص.
هو ما يجعلنا نقدّم هذه المسيرة ضمن مراحل لضرورة التقسيم الزماني، مراحل عَقْديّة، السبعينيات مثلاً هي بالتسمية سينما الثورة، الثمانينيات مرحلة انتقالية تُحال تلقائياً إلى التسعينيات، لكونها أولاً مرحلة انتقالية في الحياة السياسية للفلسطينيين، وثانياً لعدم تكوّن ملامح سينمائية لها مكتفية بفيلم روائي واحد. التسعينيات هي بالتسمية سينما أوسلو. ما بعد الألفين يقع كله في مرحلة واحدة ممتدة ومتفاوتة انسجاماً مع تطور الحالة السياسية الفلسطينية. لكن لا يمكن تسميتها بأريحية، أولاً لطول مدتها ولكثرة موادها، وثانياً لتفاوت المواضيع في عشوائيتها وتنوعها. نبقى إذن في موضوعنا، سينما أوسلو.
أفلام محدودة استطاعت تشكيل ملامح تيار سينمائي متعلق بمرحلة زمانية محدود بالتسعينيات، وبميزات سينمائية متماثلة، كانت مخلصة للزمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عاشته القضية الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية، في الفترة ما بين التوقيع المتدرّج للاتفاقيات، من مدريد إلى أوسلو إلى باريس، أوائل التسعينيات، ما ستُسمى لاحقاً باتفاقيات أوسلو، توقيع رسَّم اليأس والبؤس في التاريخ الوطني الفلسطيني. هو ما سنراه في سينما الفلسطينيين الروائية في الفترة ما بين هذه الاتفاقيات وانتفاضة الأقصى، التي أتت رداً عليها وإنهاءً لها، تاريخياً وكذلك سينمائياً إذ حلّت مرحلة جديدة لدى الفلسطينيين. تكون سينما أوسلو إذن محصورة في عقد التسعينيات، منذ التوقيع أوائلها حتى اندلاع الانتفاضة عام 2000.
لهذه السينما ميزات، لكن لنكترث هنا بالعناوين. أولها فيلم رشيد مشهراوي «حتى إشعار آخر» (1994) ثانيها فيلم ميشيل خليفي «حكاية الجواهر الثلاث» (1995) ثالثها فيلم مشهراوي «حيفا» (1996). ثلاثة أفلام متماثلة في روحها، وإن تقاربَ فيلما مشهراوي بابتعاد نسبي عن فيلم خليفي. ففي فيلم الأخير، الأفضل منهما فنياً في كل الأحوال، ابتكار في القصة وأمل كامن في شخصياتها الطفولية، فيه خيال منطلِق إلى عوالم الخرافة والتاريخ في أذهان الشخصيات وكلامها. أما فيلما مشهراوي ففيهما البؤس واليأس، كما هما في واقع الفلسطينيين، بإخلاص لكن بكسل.
لم يبتكر مشهراوي هنا ولم يخرج عن واقعية المخيم وواقعه، ما حدّ من الابتكار في الفيلمين وجعلهما صورة سينمائية متواضعة لواقع بآمال وأحلام متواضعة كذلك. بذلك يكون الفيلمان هما الأشد أوسلويّة من غيرهما، ومشهراوي مدّ في أوسلويّة أفلامه إلى ما بعد العقد الأوسلويّ وهو موضوع آخر، ويكون كذلك فيلم خليفي أوسلوي في سياقه مع رغبة وأمل نجدهما لدى الأطفال، أي أن الفيلم انطلق من الروح الأوسلويّة لواقعه وحلمَ من خلال خيالات الأطفال بما هو أفضل. خضعت الشخصيات في فيلمَي مشهراوي لليأس ومثّلته كما هو، طبّعته. خرجت الشخصيات في فيلم خليفي عن اليأس بالحلم، وإن بقيت محصورة فيه في واقعها، هذا الانحصار هو ما يجعلها، أخيراً، كذلك سينما أوسلوية. فلا تمرّد في أي من الأفلام الثلاثة.
ليست «الأوسلوية» تقييماً نقدياً، وليست أساساً سمةً سلبية، هي توصيف نقدي لمرحلة سينمائية منعكسة عن المرحلة التاريخية، عن السياق السياسي للفلسطينيين. أما التناول النقدي للأفلام، بمعزل عن السياق السياسي، فسيعزل كلاً من فيلمَي مشهراوي، المتواضعين كونهما عملين سينمائيين، والهامين كونهما وثيقتين سياقيتين، يعزلهما عن فيلم خليفي وهو الأنضج فنياً وحكائياً، والمحافظ كذلك على أهميته كوثيقة سياقية. التناول النقدي سيعزل كذلك ما بين الأفلام الثلاثة، وبين فيلم إيليا سليمان «سجل اختفاء» (1996) الأوسلوي مرحليّاتياً، سينمائياً وسياقياً، والأفضل بأشواط من الأفلام الثلاثة أعلاه، سينمائياً.
ما بعد مرحلة أوسلو، روائياً، سيكمل سليمان مشواره السينمائي المتدرّج في نضجه، بأسلوبه الذي ابتكره مع فيلمه الأول. سيُخرج خليفي فيلماً واحداً، عادياً، ويتوقّف إلى حين نشر هذه الأسطر، وسيواصل مشهراوي خطاً مستقراً لأفلامه في انحدارها السينمائي والسياسي. فيلم خامس سينهي مرحلة أوسلو، هو «عرس رنا – القدس في يوم آخر» (2002) لهاني أبو أسعد. وهو أقرب في اجتماعيته ويأس شخصياته وخيبتها، إلى أفلام مشهراوي وخليفي في التسعينيات، وإن خرج زمانياً عن الأوسلوية، إذ تبع انتفاضة الأقصى بعامين. لكن انفصالاً سياقياً كان للفيلم عن واقع الفلسطينيين، قد يكون ذلك للفترة الزمانية التي يحتاجها أي فيلم ما بين كتابته وعرضه، فتسبقه الأحداث ويبقى الفيلم، ما لم يكن المخرج فطناً، متخلّفاً عن حدث واقعي فصلَ ما قبل عمّا بعده، كانتفاضة الأقصى. بذلك يكون فيلم أبو أسعد فيلماً أوسلوياً جاء متأخّراً، وهجيناً، لا هو وثيقة لمرحلة بعينها ولا هو مخلص لمرحلته. جاء خيبةً سياقية، لكن كذلك سينمائية، فكان الأقل أهمية وابتكاراً من بين عموم أفلام أوسلو، كأنّه يلحقها مهرولاً في آخر الرَّكْب. فنساه الناس والدارسون. ثم، كأنّ أبو أسعد أدرك ذلك وأسرع بفيلم سيتبعه بثلاث سنوات وكان فيلم انتفاضةٍ بالتمام، «الجنة الآن» (2005) ابن واقعه وسياقه.
فيلم روائي فلسطيني آخر خرج في التسعينيات، لكنه خرج عن التوصيف الأوسلويّ. هو «درب التبانات» (1997) لعلي نصّار. لا أوسلو هنا مكاناً ولا زماناً، فالقصّة تجري في قرية جليلية في زمن الحكم العسكري. وكان بروح ثورية، أقرب إلى أفلام الثورة، في السبعينيات، الروائية. الامتياز الوحيد في سينما أوسلو، فنياً، كان لفيلم سليمان الذي أدرك باكراً حالة الانتفاضة بفيلمه التالي «يد إلهية» (2002). خاتماً بفيلمه «سجل اختفاء» مرحلة أوسلو ومستهلاً بفيلمه «يد إلهية» المرحلة التالية، ما بعد عام 2000، البادئة بأفلام الانتفاضة قبل أن تضرب العشوائيةُ هذه السينما في مواضيعها.
كاتب فلسطيني سوري