في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كشف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان السيناريو الذي يرغب في نهجه حيال قضايا الخارج (والداخل)، فقال إن برنامجه يركز على “المشاركة البناءة مع العالم”، واستعداده للعمل على إحياء الاتفاق النووي. خلال الجلسات أعلن بزشكيان أمرا غير مسبوق فوعد بقبول ما يتفق عليه الفلسطينيون لإنهاء الصراع مع إسرائيل، بما في ذلك حل الدولتين، وهو ما يعني تغييرا فارقا في السياسة الخارجية لطهران كونه يعني قبول مبدأ الاعتراف بإسرائيل كدولة.
على المنصّة نفسها للجمعية العامة عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطته المناقضة كليا لنهج بزشكيان فرفع صورتين لمنطقة الشرق الأوسط تظهر في الأولى بقعة جغرافية واسعة تضم إيران والعراق وسوريا وأجزاء من اليمن ولبنان مطموسة بلون أسود ويذيلها عنوان “النقمة”، أما الصورة الثانية فتظهر، تحت عنوان “البركة”، خريطة تحلّ فيها إسرائيل محل فلسطين التاريخية فتطمس الأراضي الفلسطينية المحتلة وتمد خطا للازدهار التجاري من إسرائيل الكبرى تلك يمر بأراضي الجزيرة العربية والخليج العربي وصولا إلى الهند!
يسعى الرئيس الإيراني، حسب الخطوط العريضة لمخططه، إلى القيام بإصلاحات داخلية تساهم في التنمية الاقتصادية وترميم البناء الوطني، وإلى بدء فك الاشتباك مع الغرب فيما يخص هاجس المشروع النووي، وإلى تعزيز العلاقات مع دول المنطقة العربية، مع سعي إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية، وهو بهذا المعنى محاولة إيرانية للهبوط من دولة الإمبراطورية الثورية التي أنهكت شعبها، الذي لم يتوقف عن أشكال الحراك السلمي (والعنفي) للاحتجاج، وساءت علاقاتها بالجوار العربيّ، لكنّها، في الوقت نفسه، شكّلت محور ممانعة للنفوذ الإسرائيلي – الأمريكي.
وجد نتنياهو، في عملية حركة “حماس” في غلاف غزة قبل عام تقريبا، الفرصة التي ينتظرها لقلب الطاولة على كل خصومه السياسيين، داخل إسرائيل، على أمل الفوز لاحقا في معركته ضد الجهاز القضائي (المحكمة العليا)، وفي منع المحاكمات التي تطارده، ثم فتح له الدعم والتعاطف والتواطؤ الأمريكي – الغربيّ الطريق بسرعة ليدفع باتجاه الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة، ولإلغاء المشروع السياسي الفلسطيني برمّته، ولمواجهة “حزب الله” بعد أن كانت المؤسستان الأمنية والعسكرية قد جهزتا خطة للانقضاض عليه، بل توسّع المخطط، على الشكل الذي رأيناه في استقبال الكونغرس لنتنياهو، وفي العرض المسرحيّ الذي قدّمه في الأمم المتحدة، وفي عروض عديدة سابقة له لتحريض أمريكا والغرب والعالم على إيران.
ولأن مشروع نتنياهو لا يمكن أن ينجح إلا باستخدام أكثر أشكال الاستفزاز الممكنة التي تدفع بإيران والغرب إلى مواجهة لا يمكن الخروج منها فقد جرى التصدّي لنهج بزشكيان بسرعة شديدة وبأكبر قدر يمكن من المغامرة التي لا تترك لطهران، ولبزشكيان الخيار، فحين تمّ اغتيال إسماعيل هنية زعيم حركة “حماس” في قلب طهران، وحاولت إيران مقايضة ردّها بتقدم على جبهة وقف إطلاق النار في غزة قام نتنياهو بخطوات أشد خطورة واستفزازا فقتل قادة في “الحرس الثوري” قرب قنصلية إيران في دمشق، ثم بدأ في اغتيال قادة “حزب الله”، ثم عناصره عبر ضربتي “البيجر” واللاسلكي، ثم وجه ضربة قاصمة للحزب ولطهران باغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لـ”حزب الله”، إضافة إلى قادة آخرين ونائب قائد “فيلق القدس” عباس نيلفوروشان.
يصل قوس المقامرة الاستراتيجية الكبرى التي قرّر نتنياهو أن ينقلها من طور “السيوف الحديدية” (الاسم الذي أعطاه للحرب على غزة) إلى “حرب القيامة”، إلى قمة طموحه الذي يراهن نتنياهو عليه في أن يضيف إلى نتائج الاستفزاز الهائل لإيران هو أن تسفر الأحداث عن خسارة كامالا هاريس للسباق الرئاسي أمام دونالد ترامب، وبذلك يتحصّل نتنياهو على الحليف المثاليّ له في رغبة ضرب إيران فيحصل على الجائزة الكبرى التي يعتقد أنه رشّح لها: أن يصبح ملك إسرائيل الجديد الذي يقوم بتشكيل الشرق الأوسط على صورته، وعلى هوى ترامب.
في الوقت الذي يجول فيه عباس عراقجي وزير خارجية إيران على الدول العربية مطالبا إياها بعدم تقديم تسهيلات للهجوم الإسرائيلي سينتصب أمام دول الخليج العربي والمنطقة عموما خيار المراهنة على نهج بزشكيان الذي يحمل احتمالات إصلاح واعتدال إيراني داخلي وخارجي، أو على نهج نتنياهو الذي يريد أن يدخل المنطقة العربية في ثقب أسود هائل. لقد توضّح في الأسابيع الأخيرة هذان الاتجاهان وقرار المنظومة العربية في إنجاح أو إفشال هاتين الاستراتيجيتين سيساهم في حصول تداعيات كبرى على المنطقة.