فجأة قفزت على صفحات فيسبوك بعض انتقادات للنقاد وبعض الدفاعات عنهم، جوهرها أن النقاد ينحازون إلى كتّاب بعينهم، وأن بعضهم حين يعجبه عمل ما يتحدث عن عيوبه أيضا، فلماذا يكلف نفسه بالكتابة عن العمل أصلا، وما معنى الحديث عن العيوب.
على الجانب الآخر هناك من قال إن عليك أن تقبل النقد دون انتقاد، فالناقد حر فيما يكتب ولا تعني إشارته إلى جانب نقص ما في العمل، أنه يقصد التجني عليك. أعادني ذلك إلى فكرتي الدائمة عما ينقص النقد الأدبي الآن في بلادنا . لكنني قبلها أحب أن أشير إلى أن هناك أربعة أشكال من النقد الأدبي تمشي مع الحياة الثقافية. الشكل الأول هو المتابعات الصحافية، وهي عادة تكون قراءة موجزة جدا، وثناء على العمل دون الدخول في التفاصيل، وقد أخذت مكانها الآن مواقع السوشيال ميديا. هي نوع من تقريب العمل للقارئ الذي بعد أن يجذبه الحديث قد يقرأ العمل، ويكون له الرأي نفسه أو رأي آخر.
النوع الثاني هو القراءة النقدية في الصحف الأدبية، وعادة تكون أكثر اتساعا من الحالة الأولي، وتتوقف عند العمل دون الدخول في مصطلحات نقدية صعبة قد يجهلها القارئ، وهذه تكون أكثر اتصالا بالقارئ، رغم أن الأولى قد تصل إلى القارئ العادي أكثر. النوع الثالث هو القراءات النقدية التي لها مرجعيات فكرية استقرت مع تطور النقد الأدبي، وهذه تكون أماكنها مجلات متخصصة مثل مجلة «فصول» المصرية. النوع الأخير هو الدراسات الأكاديمة، وهذه بدورها تكون خلفيتها أيضا مناهج النقد الأدبي، وما استقرت عليه من بنيوية وتفكيكية وحداثة وما بعد الحداثة، فهي أقرب للدراسات التي تنشرها المجلات المتخصصة، أو النوع الثالث منها، لكنها تكون محصورة في الكتب الجامعية، التي هي غالبا أقل انتشارا من المجلات وليس لها مواعيد سابقة.
الحديث الذي تقافز على صفحات فيسبوك، ودون إشارة إلى أسماء من أثاروه، أعاد إليّ الكثير عن النقد الأدبي، أوله أنه كثيرا ما يفرح الكتّاب بما يكتب عنهم في بداية حياتهم، ثم حين يصبحون في قلب الشهرة يتنكرون للنقاد، ويعتبرونهم أقل قيمة منهم ولا حاجة لهم. رأيت ذلك وعشته وقرأت عنه قبل أن أراه، ولم أصدقه إلا حين رأيته وكنت مندهشا. من الشائع في انتقاد النقاد عنايتهم كما يقال بما تنتجه الكاتبات باعتبارهن نساء أكثر من عنايتهم بما ينتجه الرجال. ولا أحد ينظر حوله ليعرف كيف صارت الكاتبات في عالمنا العربي باتساع وعمق الرجال ويتفوقن عليهن أحيانا، ويغامرن في كسر محرمات، قد يتوقف عندها بعض الكتاب الرجال، فضلا عن شكل الكتابة الأدبية وتجديد الكثيرات منهن فيه.
لم تعد هذه القسمة الضيزي بين النساء والرجال قائمة، لكنها النفس البشرية في تجلياتها السيئة، حين لا تجد تفسيرا لإنكارها مثلا، فتصيب النقاد بما تراه في الخلفية التي لا يراها أحد. يعتبر منتقدو النقاد أن الناقد روبوت تصله الأعمال الأدبية، وعليه أن يقوم بالاستجابة لها بمقال، دون إدراك ان الناقد الأدبي مثله مثل الكاتب المبدع، لديه من المشاغل والهموم ما قد يجعله ينسى أو لا ينتبه، أو حتى ينشغل عن العمل الذي أهداه له صاحبه. ناهيك طبعا عن كمية ما ينتجه المبدعون من أعمال إبداعية فاقت كل الأزمنة السابقة. ينسى بعض الكتاب أن عملهم الأدبي بمجرد خروجه إلى الحياة، صار سلعة من حق كل شخص أن يشتريها أو يهملها. يقرأها أو لا يقرأها. أحاديث كثيرة يمكن قولها عن اتهام ناقد ما بالتقصير أو غيره، وأسبابها التي عادة لا تكون علمية، لكن نتاج الغرور لكاتب بعد الشهرة أو نتاج الإحباط في البدايات، مما يراه حوله، وخلطه بين الحفاوات العادية في شكل متابعات صحافية، والمقالات ثم الدراسات المهمة. هكذا صارت كل كلمة من الناقد هناك من ينتظرها للتعليق عليها لأسباب غير نقدية، ورغم أنني لست ناقدا، وإن كتبت كثيرا عن أعمال رائعة، صرت حين يحدث معي حوار ويكون السؤال عن أهم الأسماء الأدبية، أقول إنهم كثيرون، وأتحاشى ذكر بعض الأسماء، لأنني لا أستطيع أن أذكرها كلها من ناحية، ومن ناحية أعيش مع النسيان، وأيضا قد يُغضب البعض عدم ذكر أسمائهم.
مهم أن نعرف أنه باعتبارنا في مجال إنساني وهو الإبداع والنقد، فلا كلمة نهائية فيه. كثير مما يعتبره ناقد ما قصورا في رواية ما، قد يعتبره آخر نجاحا، وقد يعتبره الزمن كذلك، فتلقي النقاد مثل تلقي كل البشر ليس تلقي روبوتات. أعاب الكثيرون على دوستويفسكى مثلا في حياته أنه كثيرا ما يمشي وراء موقف أو حادثة، فتشغل صفحات كثيرة جدا حتى يعود إلى متن الرواية الأصلي. ورغم أن البعض اعتبر ذلك من تجليات كتابته بعد نوبة الصرع التي كانت تصيبه، ويظل من آثارها هذا الخروج عن المتن، إلا أنه في ما بعد وجد نقاد كبار لذلك مبررا فنيا، ونوعا من التجديد في الكتابة، أو إحدى سمات الكتابة المهمة عند دوستويفسكي. النقد تاريخيا جاء بعد الإبداع، وإن استشرف مستقبل الكتابة وشكلها، لكن كل ما يستقر عليه النقد يتغير مع الزمن، والكاتب حين يقرأ النقد يجب أن يقرأه ليعرف كيف يبدأ من حيث انتهى الجميع، ويستطيع أن يدرك كيف يخرج على ما استقر عليه النقد، لكن بما لا يخل بالصدق الفني. لكن هل هذا يعني أنه لا معنى للنقد. على العكس هو يفتح الطرق ويضيئها، وعلى الكاتب أن يختار من بينها الطريق الأصوب لمكان وزمان وشخوص روايته، وكيف يضيف إلى الضوء في الطريق ونهايته.
من هنا أعود إلى سؤالي الأول وهو عما ينقص النقد الأدبي. بتمهيد بسيط نحن نقرأ أبحاثا لا نهاية لها، وكتبا كثيرة عن المدينة في الرواية والمرأة في الرواية والتاريخ في الرواية والمكان في الرواية، وغيرها من الموضوعات التي يفتش عنها الناقد بجهد رائع في الأعمال الأدبية، حتى لو لم يكن الكاتب يقصد ذلك. كما نقرأ عن ملامح من الرواية العراقية والرواية العُمانية والرواية المغربية وغيرها، وكل ذلك يدخل في موضوع الرواية وليس شكلها، بينما شكل الرواية وتطوره هو جوهر المذاهب الأدبية، وهذا هو ما أشرت دائما أنه ينقص النقد . كيف يستطيع النقاد من دراسة الروايات الانتهاء إلى ملامح في شكل الكتابة بين الرواية العربية، ولا بد أنها ستسعفهم في إيجاد مصطلح نقدي جديد يضاف إلى المصطلحات العالمية، فالرواية العربية تنتشر بين أكثر من مئتي مليون عربي، شأنها في ذلك شأن الرواية الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية وأكثر من الرواية الألمانية والإيطالية، وهذه أمثلة على الإبداع بتلك اللغات العالمية التي جاء منها شكل الكتابة الجديدة. ورغم ما قلت أن شكل الكتابة سيتغير لكنه لا يتغير كل يوم ولا كل عام، لكن مع الأحداث الكبرى، ومن ثم مهم أن نستقر على مصطلح أو تعريف لشكل الكتابة العربية، ويكون في يقيننا أنه سينتشر في العالم، فاللغة العربية ليست أقل تأثيرا من غيرها. لا يزال بعض كتاب العالم، خاصة في أمريكا اللاتينية يتحدثون عن ألف ليلة وليلة كمصدر لنزعتهم العجائبية، ونحن الآن لدينا مئات من الروايات المهمة يمكن أن تكون الكتابة عن بنائها الفني هادية لشكل كتابة جديدة في العالم، بل ربما يساهم هذا الجهد في الإقبال على ترجمة الأدب العربي أكثر، وليس مجرد الوقوف عند ترجمة الروايات الفائزة بجوائز عربية، تطبع في دور نشر محلية أو أوروبية بعدد قليل من النسخ. اللغة العربية يمكن أن تكون هادية لطريق جديد في الكتابة في العالم شأنها شأن أيّ لغة أخرى، وهذا ما أتمناه من النقد الأدبي.
كاتب مصري