المبدأ مفهوم فلسفي ينتمي إلى الفلسفة الأخلاقية والفرع الإيطيقي منها تحديدا، وهو المجال الذي يوفر القوانين والسلوكيات التي تطبقها التصرفات الأخلاقية. وإذا تناولنا الموضوع الأفغاني من منظور الآلية الجيوسياسية، التي نحتاجها أكثر هنا، الفلسفة السياسية، سنحتاج أيضا إلى التذكير بأن الفلسفة الأخلاقية فرع من فروع الفلسفة السياسية.
عندما نتحدث عن الأخلاق، كثيرا ما نقرن الأخلاق بالمبادئ،، لكن إذا فرضت معالجة الموضوع نفسها من زاوية الفلسفة السياسية وبعدها الجيوسياسي، لا بد أن نتذكر بأن كلمة “مبدأ”(doctrine) لها معنى محدد في أدبيات السياسية الخارجية الأمريكية، فهي تعني الركيزة الأساسية والوجهة الرئيسية التي ستبنى عليها فترة ولاية الرئيس، كأن تتحدث عن مبدأ ترومان الشهير، الذي قام على احتواء الشيوعية، وقبله بقرن مبدأ مونرو الذي سجّل إرهاصات عدم التدخل الأمريكي الخارجي، قبل أن يحوره مبدأ روزفلت بمنعرج 180 درجة، باستيلاءات أمريكية متعاقبة في أمريكا الجنوبية.بقي موضوع الاستيلاء (الاستعماري) والاستقلال تاريخياً، ثم التدخل والانسحاب في الوقت الراهن، المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية، التي فرضت على أمم المعسكر الأطلسي، تأرجحها كقاعدة دائمة بثت ضبابية كاملة في مبادئها بالمعنيين الأخلاقي والجيوسياسي (علما أن المفروض أن يتكاملا). هذا إذا كنا نفهم المبادئ انطلاقا من قابليتها للانسجام كونيا، مع تطلعات الشعوب من حرية وكرامة.
فنانون يساهمون في نشر الوعي الجماعي بمأساة من مآسي العالم ومجتمع دولي يدير الظهر لواقع يعتقده بعيدا
عندما دخلت القوات الأمريكية إلى كابل قبل عشرين عاما، راج خطاب وصول حملة مشعل الديمقراطية والتقدم والحداثة، وكانت هناك دواع فعلية للإيمان بتثبيت طبقة أفغانية وسطى تقدمية حداثية، اعتقد في الغرب أن طريقا عريضا كان ممهدا لها، في ظل إنجازات القائد أحمد شاه مسعود، التي شكلت في العالم أملا براقا لوضع أفغانستان على سكة سياسية اقتصادية واجتماعية آمنة. ولم يختلف كثيرون في أن العشرين سنة المتعاقبة شهدت تقدما اجتماعيا واقتصاديا ملحوظا، تمثل في بناء مدارس ومستشفيات، وفي تحقيق المساواة بين الجنسين، ترجم بإنشاء مؤسسات إعلامية مخصصة للبحث في محاور تخص المرأة ذاتيا ونصرة قضيتها، فما الذي حدث حتى تحولنا بين ليلة وضحاها من الحداثة الناشئة إلى تفكيك هذا النموذج الاجتماعي الكوني، الذي لم يتأصل في الأراضي الأفغانية؟ هنا، يأتي موضوع المبادئ ويطرح نفسه بإلحاح.. وفي المبدأ نظر وتطبيق معا، وكثيرا ما ينسى أن التطبيق لا يتوافق دائما مع النظر، بل قد تضطر باسم المبدأ أن تخالف النظر في التطبيق. كان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وعدا مقطوعا على الشعب الأمريكي من الرئيس السابق دونالد ترامب نفذه الرئيس الحالي جو بايدن، واضعا تاريخ 31 أغسطس/ آب كحد نهائي للوجود الأمريكي في أفغانستان. لكن هل يمكن أن نستنتج هنا، كما راج في بعض الدوائر الفكرية، أن بايدن يقتفي آثار سابقيه ممن انخرطوا في مبدأ (doctrine) ما سمي بالانعزالية، في هبة تحليلية تشمل عادة كلا من مونرو وويلسن و”نقاطه الأربع عشرة”؟
في عام 1823، ركّز مونرو في خطابه الذي وجهه للأمة الأمريكية، على وضع حد للاستعمار (وكان الاستعمار يتجسد حينها في مطامع أمريكية وأوروبية مشتركة). وكان عام 1918 عاما محوريا في التاريخ، ليس لمجرد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لكن لتبلور محاور فلسفة الـ”مبادئ” عبر “نقاط” ويلسن التي كان مفروضا أن تنطبق على شعوب العالم كاملة، بين سيادة وحكم ذاتي ودبلوماسية سرية ومناصفة في التبادلات الاقتصادية، والحد من التسلح بما يضمن أمن البلدان، لكن النقطة التي تشكل بلا منازع أهم ركائز مبدأ ويلسن هي النقطة الرابعة عشرة: “ضمانٌ متبادلٌ للاستقلال السياسي والسيادة على الأراضي للدول، أكانت صغيرة أم كبيرة، عبر تكوين عصبة للأمم تنتج من تحالفات معينة”. ترجمت هذه النقطة بتأسيس عصبة الأمم، التي ستتحول في ما بعد إلى منظمة الأمم المتحدة، لكن مرة أخرى، لم يتجاوز “مبدأ ” ويلسن المستوى النظري، أي مستوى المبادئ الذي يصطدم بواقع وجوب التطبيق المتعثر لغياب ما يحتاجه القرار السياسي أكثر من أي وقت مضى: البراغماتية .
وبدا واضحا أن بايدن ذهب أبعد.. لم يصاحب قراره بأي “مبدأ”، سوى تطبيق صارم لقرار، لم يُبن على تقييم ولا استشراف لصيغة توافقية مع قوى المعارضة، ولا تخطيط مستقبلي لأي دعم لوجيستي وجوي للجيش الوطني الأفغاني.
فشلت السياسة، فلنختتم بالإبداع، وبالفن الملتزم تحديدا: أتذكر أغنية “في جلال أباد”، إحدى روائع الفنان الفرنسي جان فرانسوا بيرنارديني، منشد مجموعة “إي موفريني” من كورسيكا.. أغنية سجلت قبل سنوات ولاقت إقبالا جماهيريا كبيرا وقتها.. وكذلك “يا بنتا أفغانية صغيرة” تغنى بها الشهيران رونو وأكسيل ريد.
وكأننا عدنا الى المربع الأول: فنانون يساهمون في نشر الوعي الجماعي بمأساة من مآسي العالم ومجتمع دولي يدير الظهر لواقع يعتقده بعيدا. وهنا المغالطة واضحة… لأن المبدأ خاطئ.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
/بقية الكلام/
واستنادا إلى ذلك، فإن أنسب تعبير عربي فصيح لكلا المعنيين، في هذه القرينة الاصطلاحية، هو ما تعبر عنه كلمة «السَّنَن» ذات العلاقة الاشتقاقية بكلمة «السُّنَّة» بالذات – وهذا كله يأتي معجميا ودلاليا في مقابل كلمة «المبدأ»، في اللغة العربية، التي تُخصَّص عادة لكلمة Principle، في اللغة الإنكليزية.. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كأن تقول «سَنَنُ القضاء والقدر» The Doctrine of Predestination، في مجال الديانة المسيحية، إلى آخره، أو أن تقول «سَنَنُ ترومان» The Truman Doctrine، في مجال السياسة الأمريكية، إلى آخره.. !!