منع المرسوم الانتخابي الجديد في تونس كما هو معلوم التمويل العمومي للحملات الانتخابية، وهو ما اعتبر صفعة لمبدأ المساواة بين المترشحين الذي طالب به كثير من التونسيين لتجاوز مساوئ العشرية السابقة التي اختلط فيها التمويل الداخلي بالخارجي بالحزبي بالرأس المال الفاسد، في خلطة عجيبة جعلت الاستحقاقات الانتخابية مشوبة بالتزوير وفق المعايير الدولية. فقد كان الأمل في بقاء التمويل العمومي ومنع أي شكل آخر من أشكال التمويل الداخلي أو الخارجي سواء تعلق الأمر بأفراد أو بأحزاب أو بدول وأجهزة تابعة لها أو بمنظمات أو بجمعيات أو غيرها، حتى لا تتكرر مأساة الماضي القريب وتكون إرادة الناخب سليمة غير مشوبة بأي عيب من العيوب.
وكان الأمل كبيرا أيضا في إيجاد رقابة صارمة على التجاوزات المالية الحاصلة أثناء العملية الانتخابية، وذلك خلافا لما كان عليه الحال في السابق عندما حصلت تجاوزات كارثية وثقها تقرير محكمة المحاسبات الذي بقي حبرا على ورق ولم تتم إدانة أي جهة على أساسه. لكن هناك شبه قناعة أن لا شيء من ذلك سيحصل باعتبار أن عدم محاسبة من تورطوا في التجاوزات المالية الانتخابية السابقة يدفع إلى الاعتقاد، وربما الجزم، بعدم محاسبة من تورطوا في التجاوزات الحاصلة في هذا الاستحقاق في ظل طغيان ظاهرة إفلات السياسيين من العقاب والتسويات التي تقوم على قاعدة «غض الطرف عني اليوم وأغض الطرف عنك غدا».
ويمس الإفلات من العقاب بمبدأ المساواة لأنه بالنهاية سيشجع المتجاوزين على التمادي في تجاوزاتهم، وسيشجع غيرهم أيضا على التجاوز من دون الخشية من أي رادع، وستشهد الانتخابات حملات لبعض المترشحين بمبالغ خيالية مقابل حملات أخرى يعجز صاحبها عن توفير المتطلبات المالية لعقد اجتماع عام. وسيؤثر ذلك سلبا على إرادة الناخب ويمس من مصداقية العملية الانتخابية ويصنف طبق المعايير الدولية على أنه نوع من أنواع التزوير والذي لم ينقطع في تونس بتاتا لا ماضيا ولا حاضرا.
وزادت الهيئة المستقلة للانتخابات الطين بلة بإصابة مبدأ المساواة في مقتل من خلال تنقيحها لقواعد تمويل الحملة الانتخابية وإجراءاتها بالقرار عدد 30 المؤرخ في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 والمتعلق بتنقيح وإتمام القرار عدد 20 لسنة 2014 والمتعلق بضبط قواعد تمويل الحملة الانتخابية وإجراءاتها وطرقها. فقد كان يرجى الإصلاح من مثل هكذا قرارات فإذا بنا أمام قواعد لا تحقق مبدأ المساواة كسابقاتها فرضت تمويل الحملات الانتخابية من المصادر المتأتية من التمويل الذاتي وتمويل الأفراد واعتبرت تمويلاً ذاتياً كل تمويل نقدي أو عيني للحملة مصدره الموارد الذاتية للمترشح.
فهذا القرار وإن منع الأحزاب من تمويل حملات مرشحيها في الانتخابات التشريعية، وذلك بالنظر إلى التجارب السيئة مع الأحزاب خلال الفترة السابقة، إلا أنه فتح الباب على مصراعيه لتمويل رجال الأعمال وأصحاب المال الفاسد وغير الفاسد للمترشحين وتشكيل كتل نيابية بدلا عن الأحزاب. كما أنه مكن من لديه القدرة على الحصول على تمويلات من أصحاب الجاه والأرصدة المالية الضخمة من التفوق في حملته الانتخابية على من لا يمتلك هذه القدرة.
وبالتالي فقد كان حريا بالمشرع الانتخابي، أي رئيس الجمهورية صاحب المراسيم المؤقتة والهيئة المستقلة للانتخابات صاحبة القرارات، أن يذهبا باتجاه أن يتولى المترشح تمويل حملته بنفسه وفي حدود سقف مالي لا يمكن أن يتجاوزه من كان من أصحاب الأرصدة المنتفخة، مع منع أي تمويل بخلاف التمويل الذاتي بما في ذلك تمويل الأشخاص الطبيعيين. في هذه الحالة وحدها يمكن احترام مبدأ المساواة في التمويل ومن خلاله أيضا المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة والتي دون احترامها ستوصف هذه الانتخابات بأنها مليئة بالتجاوزات ولن تحظى بالاحترام اللازم وبالمصداقية حتى وإن قيل أن الخروقات الحاصلة فيها لم تؤثر على النتائج مثلما يقال في كل استحقاق انتخابي منذ 2011.
شرط التزكيات
للإشارة فإن مبدأ المساواة تم الضرب به عرض الحائط أيضا عندما تمت إضافة ثلاثة أيام لآخر أجل لقبول الترشحات وذلك حتى يتمكن بعض المترشحين من جمع التزكيات اللازمة وعددها أربعمئة تزكية بالتمام والكمال. فهل يستوي من يجمع تلك التزكيات في الأجل المحدد مع من لم يتمكن من جمعها في ذلك الأجل واحتاج إلى إضافة أيام؟ ثم ما ذنب من تراجع عن الترشح بسبب ضيق المدة الزمنية لجمع التزكيات فيما تمتع غيره بمدة زمنية أطول لجمعها، لعله لو علم مسبقا بإمكانية التمديد في الآجال لبادر إلى الإعداد لتقديم ترشحه من خلال جمع هذه التزكيات، التي لم تكن ضرورية من الأساس خاصة وأن أعدادها كبيرة ومرهقة للمترشح الذي لديه التزامات مهنية.
كما أن وجود مترشح وحيد في بعض الدوائر يمس بمبدأ المساواة باعتبار أن هناك من سيصبح نائبا بدون منافسة من قبل مترشحين آخرين ولن يكون بحاجة إلى إجراء حملة انتخابية، بالمقابل هناك من سيخوض منافسة شرسة في سبيل الوصول إلى قبة قصر باردو وسينفق من أجلها الكثير من الجهد والمال. والسبب في ذلك هو هذه التزكيات غير المدروسة التي عجز البعض عن جمعها خصوصا في دوائر الخارج حيث يصعب التنقل للقاء أفراد الجالية التونسية المشتتين في أماكن مختلفة من بلد الإقامة.
كما أن بعض الدوائر الانتخابية في الخارج تضم عددا محدودا من التونسيين، وبالنظر إلى العدد الكبير من التزكيات التي يجب أن يحصل عليها المترشح، فإن أفراد الجالية لن يتمكنوا من تزكية أكثر من مترشح وحيد أو اثنين في أفضل الحالات. وهو ما حصل فعلا بعد أن تمكن مترشح وحيد من جمع التزكيات في بعض الدوائر فيما لم يتقدم في بعض الدوائر أي مترشح وهو ما سيجعلنا أمام حتمية إجراء انتخابات جزئية لاحقة قد يتم فيها التراجع عن شرط التزكيات حتى يوجد مترشحون في تلك الدوائر. وفي هذه الحالة سيقع استهداف مبدأ المساواة وجاز لمترشح أرهق نفسه بجمع هذه التزكيات أن يتساءل بأي حق يقع إرهاقه بتلك الطريقة فيما يعفى غيره من جمع التزكيات في الانتخابات الجزئية؟
ويبقى الأمل في أن يتم التدارك في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة باعتبار أن البناء الديمقراطي هو مراكمة للإصلاحات وتجاوز للأخطاء واستفادة من دروس الماضي. ولا مفر في هذا الإطار من تعديل المرسوم الانتخابي لإعادة التمويل العمومي ومنع أي تمويل سواه بما في ذلك التمويل الذاتي للمترشح الذي يمس من مبدأ المساواة بالنظر إلى التفاوت الطبقي. ولا مفر أيضا من التراجع عن التزكيات المرهقة لمن لديه التزامات يومية باعتبار أن شعبية المترشح تحددها صناديق الاقتراع وليس تزكيات الأقارب والجيران وأبناء العشيرة وزملاء العمل التي تخضع للعاطفة وليس لمدى قدرة المترشح على الإنجاز من عدمه.
وفي كل الأحوال لا يبدو أن الفريق الحاكم معني بمبدأ المساواة ولا بالخروقات التي قد تحصل لأن الاهتمام منصب بالأساس على إجراء هذه الانتخابات وتشكيل برلمان ولاحقا محكمة دستورية عليا والخروج سريعا من الوضع الاستثنائي استجابة للضغوط الخارجية. فهي انتخابات الأمر الواقع والإنقاذ الاقتصادي باعتبار أن الجهات المانحة تربط بين مساعدة البلد اقتصاديا وبين خروجه من الوضع الاستثنائي، حتى أن صندوق النقد الدولي سيحدد قراره النهائي بشأن القرض الذي تمت الموافقة عليه على مستوى الخبراء مباشرة إثر الانتخابات.