حقُّ «انبياء» التشاؤم واليأس والإحباط علينا، وواجبنا تجاههم، بعد اسبوع حافل بمظاهر التطبيع بين حكام ومسؤولين عرب ونظرائهم الاسرائيليين، ان نتقدم اليهم بآيات التبريك والتهنئة. ولا تتوقف هذه التهاني عند عتبات هؤلاء الـ»انبياء»، بل تمتد لتصل إلى «صوامع» مريديهم، من «كُهّان» و«شيوخ»، ولتدخل بيوت كل رعاياهم، وابناء «رعيّاتهم» من جميع الطوائف والمِلَل والنِّحل.
لستُ، واحدا من هؤلاء الـ»أنبياء»، ولا من أُولئك «المريدين والرعايا. ومعي، في هذا الموقف، ملايين من الفلسطينيين، وعشرات، بل مئات الملايين من العرب، ومليارات من البشر، في مشارق الارض ومغاربها، المناصرين للحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة، والواثقين بانتصار العدل والسلام، في نهاية المطاف.
نبدأ بتسجيل الاحداث ذات العلاقة، خلال هذا الاسبوع الحافل:
ـ استقبلت دولة قطر العربية، في عاصمتها، الدوحة، وفدا رياضيا اسرائيليا، شارك في مباريات عالمية في رياضة الجمباز.
ـ استقبلت دولة الامارات العربية المتحدة، في عاصمتها، ابو ظبي، وفدا رياضيا اسرائيليا، شاررك في مباريات عالمية في رياضة الجودو. ولكن هذا الوفد جاء مُعزّزا بوزيرة الثقافة والرياضة الاسرائيلية، ميري ريغف، الموغلة اليمينية والعنصرية، التي شغلت سابقا منصب رئيسة الرقابة العسكرية على وسائل الاعلام، كما شغلت من قبل ايضا، منصب الناطقة باسم الجيش الاسرائيلي، وهي الوزيرة التي تعرضت لكثير من النقد والادانة في وسائل الإعلام الاسرائيلية، نتيجة تصريحات بالغة العنصرية، قد يكون أهم ما هو عالق في الاذهان، تعابيرها الفجّة والمشينة، في توصيف رفع الأذان في مساجد القدس العربية.
على ان ما زاد من صدمة الرأي العام الفلسطيني والعربي، عزف النشيد الوطني الاسرائيلي مرتين خلال هذه المباريات، عندما أحرز لاعبان اسرائيليان ميداليتين ذهبيتين، وبدت الوزيرة ريغف خلال عزفهما، وهي تذرف دموع الفرح والغبطة، بسماع النشيد الوطني الاسرائيلي في العاصمة العربية.
ـ استقبل سلطان عُمان، قابوس بن سعيد، في العاصمة مُسقط، «دولة رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو»، (حسب تعبير التلفزيون العماني الرسمي)، والوفد المرافق له، وأبرز اعضائه، بالاضافة إلى زوجة نتنياهو)، رئيس الموساد الاسرائيلي، ورئيس مجلس الأمن القومي، وعدد من الضباط الاسرائيليين الآخرين، وغيرهم. لكن وبالإضافة للمحادثات السياسية والأمنية مع نتنياهو ووفده، أقام السلطان لضيفه مأدبة عشاء رسمية، تخللها حفل فني، في اشارة فاقعة لعمق العلاقات الودية مع رئيس حكومة قتل جيشها يوم الزيارة نفسه خمسة مدنيين فلسطينيين.
ليس أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على الذات… وأولى الخطوات هي إعادة صياغة الحركة الوطنية الفلسطينية
ـ استقبلت إمارة دبي، في الامارات العربية المتحدة، وزير الاتصالات في الحكومة الاسرائيلية، أيوب قرّا، العربي الدرزي، العضو في حزب الليكود اليميني العنصري، المقرب من نتنياهو، والمحسوب على «الصقور» في ذلك الحزب. وكانت الزيارة في إطار مؤتمر «الاتحاد الدولي للاتصالات»، واعطي قرّا حق إلقاء كلمة ألقاها بالعربية، وتحدث فيها عن السلام والأمن لكل «دول» المنطقة.
لا يجوز التقليل من أهمية ودلالات هذا التدفق الإسرائيلي إلى العواصم العربية. هي خسارة كبيرة لكل الفلسطينيين، ولكنها خسارة ساحقة ماحقة لمن راهن على حكام دول عربية، بدل رهانهم على الحركة الوطنية الفلسطينية.
في صراعنا الطويل والمتواصل مع الحركة الصهيونية واسرائيل، منذ أكثر من قرن من الزمان حتى الآن، اهتدينا قبل أكثر من خمسين سنة، ومع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، إلى أن «رأس الحربة» في هذا الصراع، هو الحركة الوطنية الفلسطينية. لكن حسم هذا الصراع لا يتم بـ«رأس الحربة» وحده فقط، وان رأس الحربة يصبح حاسما عندما يتم تعزيزه بجسم الحربة. وجسم الحربة هنا هو الجماهير والدول العربية، وكذلك ملايين البشر في العالم، الذين يناصرون الحق والعدل.
ما نشهده هذه الايام، هو خروج للعلن، لمواقف وسياسات نعرفها تماما، عمرها سنوات عديدة، ان لم نقل عقودا، لكن اسبابا عديدة ومتشابكة، مكّنتها هذه الايام من الخروج إلى العلن، ولعل أبرز هذه الاسباب وأهمها ثلاثة:
اولا: «رأس الحربة» ذاته، وهو الحركة الوطنية الفلسطينية مثلوم. كان الخارج الفلسطيني رافعة وداعم للداخل الفلسطيني، وكان الداخل الفلسطيني رافعة وداعما للخارج الفلسطيني. أصبح الخارج الآن عبئاً على الداخل، والداخل عبئا على الخارج. كانت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، «انجبت» المنظمة «السلطة الوطنية الفلسطينية»، فتغوّلت السلطة على المنظمة. كانت الضفة رافعة وداعمة لنضال غزة، وكانت غزة رافعة وداعمة لنضال الضفة، وكانت الضفة وغزة حاميتين للقدس وأهلها. أصبحت غزة عبئا على الضفة، وأصبحت الضفة عبئا على غزة، واصبحت القدس لقمة سائغة في فم اسرائيل، تبتلعها بشكل مبرمج ومتواصل. إنه رأس حربة مثلوم.
ثانيا: يشكل ما تمر به غالبية الدول العربية، من تطاحن وحروب بينية، وحروب فيها وعليها سببا حاسما في ما نشهده من انهيارات في مزالق لم نصل إلى قعرها بعد. وهذا الوضع فتح الباب بالكامل لحكام عرب، للارتماء في احضان اسرائيل، سراً، في البداية، وعلنا» في هذه الايام. وعندما يكون رأس الحربة مثلوما، فإن جسم الحربة يصبح مجرّد عود لا أكثر.
ثالثا: وضع عالمي غير مريح، يتربع على رأسه رئيس أهوج، يشكل خطرا على مستقبل بلده وعلى حلفائه، أكثر من خطره على أعدائه التقليديين وأعدائه الجدد. لكنه، بما تملكه بلده من قوة عسكرية واقتصادية وعلمية، يساند الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي بشكل غير مسبوق، ويبتز حكاما ودولا عربية بشكل علني ومُذلٍّ غير مسبوق ايضا.
في مثل هذا الوضع، ليس امام الفلسطينيين إلا الاعتماد على الذات. وأولى الخطوات هي إعادة صياغة الحركة الوطنية الفلسطينية، أو العمل على انطلاقة جديدة لحركة وطنية فلسطينية جديدة، تتعلّم من تجارب التاريخ الفلسطيني الحديث، وتتحدث بلغة وسلاح العصر.
هذا يستدعي همة قوية، ونبذا مطلقا لـ«أنبياء» التشاؤم والإحباط واليأس والتيئيس.
قد يكون في ما انتهى اليه الكاتب الاسرائيلي، يوسي أحيمئير، (رئيس إدارة معهد جابوتنسكي في اسرائيل، ورئيس تحرير مجلة «الأمة» الفصلية، وعضو الكنيست السابق عن حزب الليكود)، في مقال له قبل يومين في جريدة «معاريف» الإسرائيلية، في تقييمه لزيارة نتنياهو إلى عُمان، عبرة يجدر بنا التمعن بها، حيث يقول: «مع كل أهمية زيارة رئيس الوزراء إلى عُمان البعيدة، ومع كل أهمية العلاقات المعقدة مع عمّان القريبة، حذار أن ننسى أنه في الشرق الأوسط كل شيء سائل، كل شيء من شأنه أن ينقلب علينا 180 درجة».
كاتب فلسطيني