إن النص، باعتباره خطابا، يقوم بتوريط القارئ في السّعْي للقبض على مفاصله، الذي يجعل مسارب ومسالك النص مفتوحة على تعددية لانهائية من حيث الدلالة. فيجد ذاته ضالّا في متاهات لا حدود لها، فتمارس عليه نوعا من الإغراء في مطاردة المعنى. وسحْرا أخّاذاً يأخذ بِلُبّه وكيانه، خصوصا إذا أخذنا بعين الاحتمال أن النص يتشكّل من كينونة لغوية تندرج في نسيج أسلوبي وفق سياق معيّن، وهذا ما يخلق الحيرة والارتباك لدى القارئ، الذي يكون انشغاله الأول والأخير يكمن في الحصول على ما يدلّ على معْناه، وهذه إشكالية من الإشكاليات المتعلقة بنوع القراءة، ومنطلقاتها وأطرها المرجعية المتحكّمة، بدون أنْ ننسى أنّ هذا النص يمثّل ذاكرة تاريخية واجتماعية، ثقافية وحضارية، مما يستلزم العمل على استحضارها أثناء بناء المعنى. وهنا لا بد من الحفْر في الطبقات العميقة، بطريقة تأويلية تروم الفهم والاستيعاب والوعي بتلك العلاقات التي تنسجها العناصر المؤثثة للنص، لتشكيل الدلالة المتغياة انطلاقا من تصور ما، هذا التصور يؤدّي دوْراً مُهمّاً في تحويل العالم اللغوي محمّلا بالمعنى. فالنص المتجدّد والمتحوّل والمنفلت من قيود التّحديد، يظل في جوهره حاملا لكينونته الدلالية، بعيدا عن المعنى الوحيد، بل مُشْرَعاً على أفق معنى أكثر انفتاحا على تعدّدية المعنى. وهنا تكمن تلك الجاذبية المغناطيسية التي يمارسها النص على القارئ.
والنص كائن لغوي، أي أن اللغة تشكّل عصَب بنيته، وقوامه الذي بدونه لا يمكنه أن يكون، مع عدم إهمال الجوانب الأخرى المتمثلة في الخيال والمتخيّل والتجربة والرؤية، فاللغة مستودع يغترف منه الكاتب لصوغ بنيان النص، ويوظفه كلّما دعَت ضرورة الكتابة والكلام والتواصل، بل يمكن اعتبارها «شبكة عملاقة» بتعبير سارتر تغلّف حياتنا، وهي التي تحقّق فعل الكتابة، ذلك أن الكثير من الأقوال/ الأفعال والأفكار، من خلال، تحوّلُ اللغة إلى كائن نصي، يترجم وجوده ويفصح عن هويته. هذه الشبكة العملاقة ناجمة عن منافذ تتعدّد بتعدّد الروافد المعرفية والفلسفية والإبداعية، التي تتفاعل وتتشكّل لتعطي النص المنتظر. هذا الأخير يحدث في البدايات نوعا من الدهشة بالنسبة للقارئ، وعالما يثير الغرابة، وتصوّرا يزلزل اليقينيات المترسبة في ذهن الإنسان، الأمر الذي يؤدّي إلى صدام/ صراع بين القارئ والنص، وإيجاد ذاته بين حالتين حالة النّفور وحالة القبول، فيسقط النص في شَرَكِ هذه الثنائية، فيكون القرار النهائي للذائقة المؤطرة للذات القارئة.
النص كائن لغوي، أي أن اللغة تشكّل عصَب بنيته، وقوامه الذي بدونه لا يمكنه أن يكون، مع عدم إهمال الجوانب الأخرى المتمثلة في الخيال والمتخيّل والتجربة والرؤية، فاللغة مستودع يغترف منه الكاتب لصوغ بنيان النص، ويوظفه كلّما دعَت ضرورة الكتابة والكلام والتواصل.
هكذا يفتح النص أفق القراءة، فهو لا يفضي إلى معنى محدّد، اعتبارا لما يخزّنه من تنوع ثقافي وثراء حضاري وبعد تاريخي وعمق إبدالي، ومن تمّ تبقى القراءة مفتوحة على احتمالات في المعنى، وكل احتمال يأخذ إلى سلسلة لامتناهية من الاحتمالات، وفي هذا تتجلى متاهات المعنى اللانهائية.
إن ما نقصده بمتاهات المعنى هو قدرة النص على الانفلات من واحدية المعنى، بقدر ما تكتشف هذه المتاهات أرض المعنى الملتبسة والعصية على التّحديد الدّلالي، التي لم يتمّ اقتحامها من قبْل، وهذه الخصّيصة ميزة من ميزات النّصوص الخالدة والدائمة الحضور في الذاكرة الإنسانية. وفي هذا السّياق يمكن الحديث عن الكتابة البيضاء/ الدرجة الصفر للكتابة، مقابل الكتابة الإيحائية، – كما طرحها رولان بارت – فالأولى تتولّد من رحم اللغة المحفوظة في ثلاجة القواميس البالية والفاقدة لروح الحياة، بينما اللغة الخارقة هي تلك اللغة التي تتعامل مع الكلمة في سياقها النصي، وقد تَمّ شحنها وتخصيبها بطاقة متجدّدة وموحية بدلالات أكثر انفتاحا على التأويل. فاللغة المحفوظة لها معنى واحد، في حين أنّ اللغة الإيحائية تمنح للقارئ الحق في التأويل. وتقليب أراضي الألفاظ لتينع بمعان جديدة ومتخلّقة من رحم التركيب الممتع. وفي هذا الإطار تلعبُ الحنكة والتجربة والخلفية المعرفية، دورا أساسا في بلورة لغة حية ومحبوكة النّسج والتّطريز، تخترق السطح الهادئ وتتجاوز القريب المأخذ، بالغوص في الأعماق للكشف عن المخبوء والمتواري، إنها لغة الأعماق ذات الفيوضات الرمزية، والظلال الكثيفة التي تخفي غابة المعنى. وتبقى غابة المعنى أكثر غموضا في غياب مفاتيح القراءة، التي بإمكانها تسليط الضياء على أدغال اللفظ في تشابكاته السياقية وعلاقاتها المتداخلة، التي تعطيه صلاحية الوجود المادّي والمعنوي، فبدون هذه الآليات يظل القبض على هذه المتاهات مستعصيا، مشوبا بالتباسات الغموض. إن حقيقة اللفظ في المعنى يتضح وفق تركيب داخل سياق نصيّ، إلا أن التركيب/ النسج يستلزم مهارة التطريز، ومداخل القول، بعبارة أخرى على الكاتب امتلاك قدرة حدسية تمكّنه من تشكيل اللغة في سبائك المعنى بطرق أسلوبية أخّاذة ومبهرة. وهذا يشرع للقارئ أفقا جماليا يمنح للغة وجودها الاستعاري المفضي إلى تشكيل المتخيّل، لتفخيخ الألفاظ بذخائر الاحتمال الدلالي.
إن منفى اللغة يوجد حيث يغيب المعنى، ويسود الإبهام كحاجب يحرس تلك المتاهات الملتبسة والضيّقة لهذه اللغة، وعائق يحجب جلال النص وبهائه، ولعلّ ما تعانيه بعض الكتابات من فقدان مناعة التخييل ناتج عن الاستعمال الساذج للغة باعتبارها إنجازا فرديا تتحقق، بوساطة الأسلوب، أي قدرة التركيب لدى الكاتب، فهذه الكتابة تظلّ مقيمة في أرض مكتظة بالجثث، في الوقت الذي تجترح اللغة الحيّة أرضا تعج بحيوات كثيرة ومتعددة، أرضا مليئة بالأحلام والماء والخيال، بالأسرار المحيّرة والأدغال الموحشة، والأسئلة المنبثقة من تربة الشّكّ البعيدة عن كل يقين، وهنا مربط جدارة هذه اللغة بالابتداع والخَلْق والحياة. إن الأمر يدعونا إلى ضرورة التفكير في ابتداع اللغة المنصتة والمصغية لسرائر هذه العوالم المترامية الأطراف والجهات والشعاب والمسالك والجغرافيات، لكونها ترجّ الحقائق وتقوّض اليقينيات، وتتوغّل في دهاليز الوجود. فكل عصر يخلق لغته النابعة من نداء اللحظة، وحرارة التجربة، ومكابدات الكائن في كونٍ في حاجة أكثر للاكتشاف والكشف. بهذه اللغة تكون الطبيعة عالما مُشْرَعاً على البهي والجليل، على البعيد والأبعد، على ما هو ملغز في التفكير ومحيّر للذائقة ومثير للعقل، عالم لا قيمة للبصر فيه، بقدر ما تحتل البصيرة مقاما يليق بجدارة هذه اللغة، فهي لغة الحدوس، بدون التّفريط في الإحساس، فاللّغة التي تفتقد الإحساس تكون ناقصة الحدوس، وهو تمازج قد يبدو أمرا سطحيا، ولكنه، في الجوهر، صلب متاهات المعنى. كما تكون الأمداء كتابا مغلقا يحتاج إلى يد لتفتحه بغية اقتحام عزلته وسواده، صمته وجلبته الوهّاجة بحكمة المنسيّ والموجود.
إن السّعي نحو المعنى في النّصّ كالسعي صوب السّراب، الذي ينفلت كلّما أوحى إليك قرب المسافة منه، لتعثر عنك أكثر بِعادا منه، فتتكرّر المحاولة تلو الأخرى، لتخلص في المقام الأخير إلى أنك تعيش وهم القبض على الذي لا يقبض، وهذا حال الساعي الباحث والمنقّب عن المعنى في النصّ، وهو طلب حليفُه ظمأ أبديّ وفشلٌ ذريعٌ، ونصيرُه رغبة القارئ في امتلاك حقيقة النص، مغيّبا أن النصّ لا يقدم حقائق بقدر ما يطرح احتمالات. هذا الاحتمال هو ما يجعل هذا النص أكثر حيوية ودينامية، وتحرّراً من المعنى الواحد.
فالمعنى يظلّ أمراً مستحيلا ومطلبا يعزّ البلوغ إليه بغاية محاصرة النص وتقييده، وهذا لا يعني السّقوط في العدمية والإبهام، وإنّما دليلٌ على زئبقية متاهاته داخل أخاديد النّص، المديدة والممتدة في اللامحدود، والمفضية إلى مجهول محتمل يغدو اقتناص جوهره وإضاءة عتماته من الأشياء التي في تبقى في حكم المنفلت والملتبس والبعيد المنال.
٭ شاعر من المغرب
اجمل ما قيل في وصف حال الكاتب والقارئ في آن واحد ابداع فعلا