الاحتلال أنواع، وأسوأ أنواعه هو الاحتلال بفكرة، هو ذاك الذي يتم عن طريق تغيير المجتمع الذي يتم احتلاله من الداخل، تغيير قيمه ومواقفه المبدئية وتحويله، بعملية غسيل دماغ مادية أو معنوية أو سياسية، لينتقل إلى الإيمان بمحتله وتنفيذ أجندته بل ولربما للوقوع في حبه.
غزة تتعرض للإبادة، تعاني واحدة من أفظع صور الاحتلال المادية العسكرية، إلا أن غزة لن تنتهي والفلسطينيون لن يختفوا، ذلك أن الاحتلال لم يستطع أن يقنعهم “بطيبته” ولم يتمكن من الانحياز بهم إلى صفه، ولربما لم يحاول حتى الانحياز بالضحية، إنما رمى إلى مسحها فعلياً من الوجود، مثله مثل كل محتل وغاز غبي عبر تاريخنا البشري، هذا النوع الذي يعتقد أنه سينجح ويستقر حين يمحو الثقافة “الأصلية” تماماً. ومن هذا المنطلق، كما قرأت ذات مرة على لسان أحد المغردين، لربما العالم العربي كله محتل، إلا فلسطين، وحدها بقيت متحررة، ذلك أنها متحررة من الفكرة، من أخطر أنواع الاحتلال، والتي يمكن أن تمحو مجتمعاً وثقافته الكاملة من الوجود.
لربما من السذاجة تصور أن الصهاينة استطاعوا إقناع بعض الأنظمة العربية بطيبتهم وحسن نواياهم، الأرجح والأكثر منطقية أنهم استطاعوا إقناعهم بطيب العلاقات العسكرية والاقتصادية معهم وبحسن نتائجها تجاههم. ولأن الكثير من الأنظمة العربية تعاني من قصور شديد في النظر، هم غير قادرين على الرؤية أبعد من بوز أحذيتهم اللامعة باهظمة الثمن، فتجدهم ينظرون لطرف الصورة اللصيق بإطارها، لمصالحهم الحالية، للمردود المباشر، “للسلام الفوري” الذي يدعي العدو الصهيوني تحققه بالتطبيع مع الدول العربية، هم لا يرون أن هذه بداية النهاية لثقافة وفكرة ومفهوم إنساني عميق، هم لا يستطيعون إدراك مدى الخطورة المحققة على القلوب والنفوس والعقول التي ستمحى منها ثقافة وتنغرس فيها أخرى غريبة متوحشة قاهرة ظالمة دموية، لا يستطيعون فهم أنهم يقلبون تربة فاسدة لا ينتمون إليها ويزرعون نبتة غريبة لن يستطيعوا التحكم فيها، ويا زارعا في غير أرضك، يا بانيا في غير ملكك…
أو لربما هم يدركون ولا يهتمون، وما المشكلة العظمى يعني؟ خسارة ثقافة، خسارة تاريخ، بل حتى خسارة أرض ووطن؟ ما دامت البنوك مفتوحة والحسابات مكنوزة والفلل والشاليهات في أوروبا والشرق الأقصى آمنة ومجهزة، فليس على المطبّع حرج، فهناك دائماً مخرج وملجأ، فالوطن بالنسبة لهم ليس مكاناً ولا أرضاً ولا ثقافة، بل هو حساب في البنك وقصر على النهر وطائرة خاصة في الجو، ولتبقى المثل والمبادئ والثقافة والتاريخ للمساكين الملهيين بإيمانهم بها، خليها تنفعهم.
الأمان لا يقدر بثمن، لذا لست هنا أنظر بكلام إنشائي عن انتصار الشعب الفلسطيني المعنوي وعن مقاومتهم التي تُعليهم عن مصاف البشر. الفلسطينيون يعانون أخطر أنواع الإبادة، لا أحد ممن حولهم ممن يتغنى ببطولاتهم يتمنى أن يكون في مكانهم، فالأمان أغلى وأهم حق إنساني، والفلسطينيون بشر، يودون في النهاية أن يحيون حياة آمنة مريحة تماماً كما هي كريمة ذات عِزة. أنا هنا أتحدث عن انتصار الفكرة بهم، باختيارهم ورغماً عنهم، في حياتهم وبعد استشهادهم، واندحارها بغيرهم، باختيارهم ورغماً عنهم، في حياتهم وبعد مماتهم. هم أحرار لأنهم لا يدوّرون فكرة صهينة فلسطين في رؤوسهم، وهؤلاء عبيد لأنهم غير قادرين على الفكاك من لحظة الاستسلام. للحرية ثمن، وعادة ما يكون باهظا جدا وربما أحياناً يستحق الاستجواب: هل تستحقين أيتها الحرية كل هذا الثمن؟ الفلسطينيون يقولون “نعم” ويدفعون ثمنها كل يوم، وشرقهم الأوسط يتمتم “يمكن، حسب الظروف… لا ندري”، ويدفعون ثمنها كل يوم. الحساب لا بد أن يُستوفى، المهم الصفقة، رابحة أم خاسرة مخزية؟