نَدرَ أن نجد في عالم السياسة المعاصرة قصة أغرب وأبعث على الحيرة من علاقة دولة إسرائيل بالقانون الدولي المفترض أنه ملزم لكل دولة بلا استثناء. وندر أن نجد منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم قصة أغرب وأبعث على الحيرة من علاقة الكيان الصهيوني بهيئة الأمم المتحدة التي ينتمي إليها عضوا كامل العضوية، بل والتي يدين لها بولادته السياسية وغنيمته السيادية و«شرعيته» القانونية، رغم جحوده المعهود وعدم اعترافه بالفضل. علاقة شاذة تشبه علاقة الولد الضال بعائلته الكبرى من آباء وأعمام وأهل وجيران. العائلة تبذل له النصح وترجو له الهداية وتعامله بالرفق واللطف، والولد النزق يمقتها ويتمنى هلاكها ولا يريد حتى أن يراها أو يسمعها. أما إذا اضطر إلى سماعها اضطرارا فإنه لا يعدو أن يقول لها مثلما كان يقول بنو إسرائيل لأنبيائهم: سمعنا وعصينا! بل إن الكيان الصهيوني لا يكلف نفسه أن يقولها، وإنما يوكل الأمر إلى مرضعته الأمريكية الحبيبة المُحبة المدججة بالسلاح الاستثنائي الاستعلائي، سلاح الدبلوماسية النووية، سلاح الفيتو الفتاك الذي يخطئ من يسميه «حق النقض» لأن النقض في هذه الحالة ليس حقا بل هو امتياز جائر ظالم ومجرد غنيمة حرب، غنيمة تتجدد كل يوم رغم أن الحرب انتهت قبل ثمانين سنة. والمرضعة الأمريكية هي دولة عظمى عِظَمَ انعزاليتها عن جميع الأمم وعظم مروقها على كل قانون. هي الدولة المارقة التي لا دور لها في «مجلس انعدام الأمن» إلا أن تقول للبشرية بأسرها كلما تعلق الأمر بإسرائيل: سمعنا وعصينا لأننا أقوى منكم. سمعنا وعصينا لأن لنا سلاح الفيتو وليس لكم إلا قانونكم الدولي، فهنيئا لكم قانونكم الذي به تحاربون. سمعنا ونقضنا بعدل الفيتو وإنصافه كل ما قلتم وما ستقولون، فالحقيقة التي لا تفقهون هي أن اتحاد الولايات الأمريكية-الإسرائيلية الإحدى والخمسين هو دوما على حق بحكم طبائع الأشياء المودعة في نظام الكون.
أما إسرائيل ذاتها فإنها تتصرف كما لو أنه لا شأن لها بتاتا بكل ما يخصها هي تحديدا (!) طالما كان ما يخصها صادرا عن الأمم المتحدة أو متعلقا بأحد ممثليها أو بإحدى منظماتها أو لجانها أو هيئاتها. وقد شهدنا أحدث الأمثلة بمناسبة جلسات الاستماع للإفادات والمرافعات المتعلقة بطلب الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية في لاهاي إصدار فتوى استشارية حول شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي اغتصبها عام 1967. إذ لما سئل معلق الهآرتس الخارج على الإجماع الإسرائيلي جدعون ليفي على تلفزيون الجزيرة الإنكليزية عن موقف إسرائيل من جلسات لاهاي، أجاب بأن الأمة الإسرائيلية معتادة، أسوة بحكامها وجميع وسائل إعلامها، أن تتعامى وتتصامم عن كل ما يزعجها من حقائق إذا كانت آتية من العالم الخارجي، وخصوصا من الأمم المتحدة ومنظماتها.
ندر أن نجد منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم قصة أغرب وأبعث على الحيرة من علاقة الكيان الصهيوني بهيئة الأمم المتحدة
والواقع أن ما ستصدر المحكمة فتواها بشأنه واضح للإنسانية كلها وضوح الشمس سواء ما تعلق بالتبعات القانونية الناجمة عن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة منذ 1967، أو ما تعلق بتأثير هذه الانتهاكات على التوصيف القانوني للاحتلال. صحيح أن لرأي المحكمة حول قانونية استمرار الاحتلال أهمية مرجعية وقيمة رمزية في نظر القانون الدولي. إلا أن الصحيح أيضا أن الإدارات الأمريكية ثابتة منذ مؤتمر مدريد على دعوة «الطرفين» إلى التوصل إلى حل سياسي، لكن بشرط معلن لا لبس فيه، هو الإسقاط التام لمرجعية القانون الدولي: حل سياسي قائم على المفاوضات المحسومة نتائجها سلفا لصالح الولايات الأمريكية-الإسرائيلية بحكم الاختلال المهول في ميزان القوى بين شعب أعزل لا سند له إلا إرادته وبين إمبراطورية عسكرية تؤمن أن القوة أقوى من الحق، بل تؤمن أن القوة هي الحق ذاته. ولهذا لم يكن موقف الممثل الأمريكي في إفادته أمام محكمة العدل الدولية مفاجئا عندما قال: لا ينبغي إلزام إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة. فهل غاب عنه أن الانسحاب بعد 57 سنة من الاحتلال ليس انسحابا فوريا بل إنه متأخر بأكثر من نصف قرن؟! لا لم يغب، ولهذا أردف قائلا إنه لا ينبغي لرأي المحكمة أن يتعلق بطول فترة الاحتلال (الفترة، مهما طالت، لا تهم! بل المهم هو المبدأ، ومبدأ الاحتلال شرعي لأن فيه ضمانا لأمن إسرائيل!) ثم ختم زافّا البشرى بأن الحل يا جماعة الخير موجود: إنه مبادلة الأرض بالسلام!
كاتب تونسي