غزة- “القدس العربي”:
تبكي الطفلة دارين البياع (10 أعوام) بحرقة أسرتها التي فقدتها في غارة إسرائيلية، استهدفت منطقة نزوحها وسط قطاع غزة، كما تبكي بحرقة أكثر وضعها الصحي بعد أن باتت طريحة فراش العلاج الطبي منذ يوم 23 أكتوبر الماضي، جراء الإصابة بتلك الغارة، والتي أدت إلى تكسير عظام القدمين، وفقدها القدرة حتى اللحظة على المشي.
التقت “القدس العربي” هذه الطفلة، وهي على سرير العلاج في مشفى شهداء الأقصى، تنتظر وصول أخصائي العلاج الطبيعي، الذي يقوم يوميا بإجراء جلسة علاج، يساعدها بصعوبة ووسط ألم شديد، على تحريك أقدامها، في سبيل علاجها، وتمكينها من المشي من جديد.
تلك الطفلة المتسمة بالذكاء، كانت قبيل بدء تلك الجلسة العلاجية، تكتب رسالة على دفترها الخاص، إلى والديها وشقيقها الذين قضوا في تلك الغارة، ضمن باقي أفراد العائلة.
طلبنا منها الاستمرار في الكتابة، وإجراء المقابلة حتى تفرغ منها، لتسيل من عيونها فجأة دموع، ويرتفع معها صوت البكاء، اعتقدنا أنها تشتكي من ألم ما، غير أن وصولها إلى فقرة كتبت فيها “اشتقت لكم كثير”، وهي تخاطب عائلتها الغائبة تحت التراب، أعادت لتلك الطفلة ذكريات الأسرة الجميلة.
فرغت دارين من الكتابة، وأنهت رسالتها برسم “رأس قلب”، كتبت فيه أسماء أسرتها الأحياء، هي وشقيقها الصغير، والذين سقطوا في الغارة، والدها ووالدتها وشقيقها وليد. وقالت “كنت بكتب لأمي رسالة.. أمي أنت حنونة وطيبة أنتم رحتوا (ذهبتم) إلى الجنة، وأنا وأخوي كنان اشتقنالكم كتير”.
هذه الطفلة قالت إنها تشعر أن والديها وأسرتها يحسون بما تكتب، وتقول “هم بيسمعوا وعارفين شو بكتب إلهم”.
وتشير دارين إلى أن شقيقها كنان الصغير، يبكي حين يسمع أن والدته قد ماتت، وتشير إلى أنها تبكي أيضا على بكاءه، وتضيف “بدنا أخونا وأبوي وأمي، الاحتلال حرموني من أهلي كلهم”.
تمالكت تلك الطفلة قواها من جديد، وهدأت قليلا، فسألناها عما حصل مع أسرتها، باعتبارها الناجية الوحيدة التي تستطيع وصف ما جرى، حيث قضى كل من تواجد في ذلك المكان الذي لجأت فيه الأسرة، وبقي معها شقيقها الصغير ذو الخمس سنوات، الذي لا يستطيع شرح الموقف كما شقيقته الكبيرة.
وتقول دارين لـ”القدس العربي”، إن عائلتها كانت تقطن في مدينة غزة، فنزحت مضطرة بعد التهديدات الإسرائيلية في بداية الحرب لسكان المدينة، إلى مشفى الشفاء، هناك مكثت العائلة عدة أيام، غير أنها اضطرت بسبب الغارات الجوية التي نفذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على المدينة، والتي صاحبت التهديديات لسكان غزة والشمال، بالنزوح إلى مناطق وسط وجنوب القطاع، إلى التوجه إلى منطقة الزوايدة وسط القطاع.
تواصل دارين حديثها، عن الفترة التي سبقت الحادثة الأليمة، وتقول “قبل ما ننتقل إلى ذلك المكان، وهو عبارة عن شاليه، قالوا (الأهل) إن المكان آمن”، وتضيف “أنا قلت ما في اشي (لا شيء) آمن، طالما في هناك أصوات طائرات وقصف”.
وفي ذلك المكان الجديد الذي نزحت إليه، سكنت أسرة دارين والديها وهي وشقيقيها، إلى جانب أعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها وجداتها، حيث كانت هناك صلة قرابة قوية بين الأعمام والأخوال، وكلاهما أبناء خالة، بمعنى أن جداتها شقيقات.
أقامت هذه الأسرة الكبيرة لعدة أيام في ذلك المكان، لعب فيه الأطفال سويا، وعايش الكبار منهم الأزمة، بالبحث عن الطعام والماء يوميا، لإطعام العائلة الكبيرة، في ظل الظروف الصعبة التي تواجه سكان غزة، خاصة النازحين الذين تركوا منازلهم قسرا، وخرجوا لا يحملون إلا ما عليهم من ملابس، وبعض الأمتعة.
ولم يدم الأمر طويلا، حتى باغتتهم ليلا الطائرات الإسرائيلية بغارة جوية قوية، أسفرت عن استشهاد كل من كان في ذلك المكان، وعددهم 70 فردا، هم أطفال وأمهاتهم وآبائهم، ولم تنجو سوى دارين وشقيقها.
فقدت 70 فردا من أسرتها وتحلم بالمشي لزيارة قبورهم وسقيها بالماء ووضع الورود عليها
تقول دارين وهي تصف ذلك الحادث المؤلم “فجأة صار في دخان في المكان، ووقعت الحيطان (الجدران) والسقف”، وتواصل حديثها “صرخت من تحت (تقصد أسفل الركام) أنا هنا يا عمو وأخوي”، كانت بعد أن مكثت بعضا من الوقت تحت الركام، تعاني من إصابتها البالغة تخاطب المسعفين وفرق الإنقاذ التي وصلت للمكان، للوصول إليها وسط الظلام الدامس، لإخراجها وشقيقها، ولم تكن وقتها تعلم شيئا عن باقي أفراد الأسرة.
على عجل تمكن المسعفون من إخراج هذه الطفلة وشقيقها ونقلهم إلى المشفى، فيما كانت تنتشل في ذات الوقت جثامين وأشلاء الشهداء.
وصبيحة اليوم التالي الذي استفاقت فيه دارين على أقدامها التي أصيبت بكسور بالغة وكثيرة، وبجروح غائرة في الرأس، بعد أن جرى تطبيبها من خلال عملية جراحية لتثبيت العظام، كانت جثامين أسرتها الممتدة توارى الثرى في المقبرة، بعد أن أفقدتها الصواريخ الإسرائيلية الحياة.
تقول دارين، وهي طفلة ذكية جدا، وتتحدث بطلاقة “أنا اتصاوبت (أصبت) برجلي، وكل أهلي استشهدوا، ورجلي بلاتين وبقدرش أمشي”.
هناك وخلال حديثها عن إصابتها وتذكرها عدم القدرة على المشي حتى اللحظة، بكت بحرقة شديدة، وبدأ صوت البكاء يرتقع، وتحدثت بصعوبة بالغة “نفسي أمشي زي باقي البنات، أنا لما أشوف رجلي بزعل وبعيط”.
وأضافت “وليش (لماذا) جيش الاحتلال عملوا هيك فينا”، وتابعت وهي تستذكر أسرتها الغائية “لو استشهدت مع أهلي أحسن أنا ما بقدر أمشي”.
وتشير هذه الطفلة إلى أنه في كل مرة يقوم الفريق الطبي بإجراء عملية الغيارات اللازمة لجروحها أو خلال جلسة العلاج الطبيعي، تبكي بحرقة من الألم، وتقول “كل مرة بشوف الجرح بصير أبكي”.
وتأمل هذه الطفلة كما تحدثت لـ”القدس العربي”، أن يجري تحويلها سريعا للعلاج خارج قطاع غزة، لتلقي العلاج اللازم، في ظل ضعف الإمكانيات الطبية في القطاع، بسبب الحرب التي طالت عمل المشافي بشكل خطير.
وفي غزة كانت وزارة الصحة طالبت بإخراج أكثر من خمسة آلاف مصاب بجروح خطيرة، للعلاج في خارج القطاع، وتقول إن ما جرى تحويله حتى الحظة عدد قليل، لا يناسب حجم وعدد الإصابات الكبير، في ظل ما تواجهه الطواقم الطبية من عجز كبير في الأدوية والمستلزمات الطبية.
ويؤكد الناطق باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة، على أن “الوضع في مشافي قطاع غزة كارثي ومعقد”، نتيجة عدم توفر الامكانيات السريرية والطبية والبشرية المناسبة لحجم اعداد ونوعية المصابين، ويشير إلى أن غرف العمليات في مستشفيات جنوب غزة مكتظة، حيث لا تستطيع الاستجابة للأعداد الكبيرة من الإصابات الحرجة والخطيرة والمعقدة، مما يؤدي إلى فقدان حياة العديد وهم ينتظرون.
ومرارا دعت المنظمات الأممية والإغاثية، سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تفرض حصارا مشددا على قطاع غزة، بالسماح بدخول الفرق الطبية من الخارج، لمساعدة الطواقم الفلسطينية في انقاذ حياة المصابين.
وتقول دارين إنها تتذكر إصابتها وتتألم أكثر حينما ترى قريناتها من الفتيات، يمشين على أقدامهن، حيث تستذكر ما كان عليه حالها قبل تلك الغارة الدامية، “كل البنات إلي بيجوا بشوفهم بيمشوا الا أنا، نفسي أمشي زي باقي البنات، أنا لما اشوف رجلي بزعل وبعيط (ببكي)”، هكذا قالت هذه الطفلة.
وأضافت “نفسي أمشي لأزور قبور أهلي، وأسقيها بالمي (المياه)، وأحط (أضع) عليها الورد”.
وتضيف “كنت شاطرة بالمدرسة، وكنت أحلم أنجح في الثانوية لما أكبر وأفرح أهلي، وأدرس بالجامعة، وأهلي يكونوا مبسوطين بنجاحي، وكنت أحلم أصبح أدرس الطلاب”.
وقد تبدل كل هذه الأحلام، وباتت هذه الطفلة الصغيرة تحلم حاليا بأن تمشي مجددا على قدميها من جديد.
حدثتنا دارين عن آخر جلسة علاج طبيعي خضعت لها، فقد كانت فرحة كثيرا، عندما أنزلها المعالج عن السرير، وجعلها تقف لأول مرة على قدميها منذ الإصابة، دون أن تحركهم للمشي، وتأمل أن يتطور الأمر لاحقا، وتتمكن من السير لخطوات.
لم يمضي وقتا حتى وصل المختص، أجرى لها بعض التمارين وهي ترقد على سرير العلاج، في بعضها كان صوت صراخها من الألم يصل إلى غرف المرضى المجاورة، بكت تلك الطفلة بحرقة أيضا من الألم، وطلبت إنهاء الجلسة، وبكلمات لطيفة تحدث فيها مختص العلاج الطبيعي مع الطفلة، وهدأها بأن ذلك سيساعد على شفاءها، اضطرت لإكمال التمارين المؤلمة، على أمل المشي في قادم الأيام.
بعد أن فرغ الشاب المختص في العلاج الطبيعي من جلسة العلاج، سألته “القدس العربي” عن مدى الإصابة، أشار إلى أن وضع الطفلة ليس سهلا، فهناك كسور كثيرة في عظام الساق، اضطر الأطباء إلى إيصالها بالبلاتين، ويشير إلى أن أمر علاجها قد يطول قليلا، ويؤكد أنها بحاجة إلى رعاية فائقة.
وحاليا تقوم خالة والدي هذه الطفلة على رعايتها، وهي السيدة يسرى حمو، ذات الستين عاما، وتقول هذه السيدة التي تبيت إلى جانب دارين في المشفى، وترعى أمور حياتها، فيما شقيقها الذي شفي من الإصابة، يقيم بين أفراد أسرة تلك السيدة في منزلهم، إنها ستواصل رعايتها طالما بقيت هذه السيدة على قيد الحياة.
وتؤكد هذه السيدة، أن دارين باتت اليوم يتيمة، وأن ذلك يدفعها للاستمرار برعايتها، وتضيف “سأرعاها كما أنها واحدة من بناتي”.
جدير ذكره أن الحرب الإسرائيلية الدامية ضد قطاع غزة، أدت لاستشهاد نحو ٢٣ ألف فلسطيني، من بينهم 8000 آلاف طفل، وإصابة نحو ٥٦ ألف آخرين بجراح، حيث تعد نسبة الأطفال والنساء الأعلى من بين المصابين أيضا.