«إننا نعيش في عصر الخوف والسلبية والأخبار السيئة، فلا سوق للأخبار السارة؛ لأنه ليس هناك من يهتمون بها». ليونيداس دونسكيس
إنَّ التطور التكنولوجي الهائل الذي أوصل إلينا شبكات تواصلية، توثق أو تمزق العلاقات الاجتماعية، وترسخ معاني ومفاهيم ورؤى جديدة، يمكن من خلالها فرض أحكام جديدة على طبيعة النفس البشرية، ومعرفة شخصياتها وطرق تفكيرها، فالفيسبوك، على سبيل المثال، من أكثر أنواع تلك الشبكات شيوعاً، التي تتضمن «خطابا تعبيريا» عن أهواء الشخص ورغباته، ليكون الفيسبوك بذلك، الأكثر تعرية للذات الداخلية، والكاشف الأكثر وضوحا لأسراره، فالسؤال الرئيسي الذي يطرحه الفيسبوك على جداره «بماذا تفكر؟» هو المدخل الأولي لتجسيد مظاهر الشرور السائلة التي تستوطن دواخل الكثيرين من البشر في هذا العالم الواسع، فما المقصود بالشر السائل؟ وكيف يمكن للفيسبوك وغيره من أنواع الشبكات التواصل الاجتماعية أن ترسخ مفهومه في حياة الكثيرين؟
ظهر مصطلح «الشر السائل» في كتاب مشترك للفيلسوفين ليونيداس دونسكيس وزيجمونت باومان بعنوان «الشر السائل، العيش مع اللابديل»، الذي يعد جزءا من المشروع الفلسفي الخاص بالفيلسوف البولندي زيجمونت باومان، الذي يحاكي المشاعر الداخلية للإنسان، وفق رؤية فلسفية جميلة، يمكن أن يجد فيها القارئ ما يثري آفاقه في معرفة مفاهيم كالحب والشر والخوف مرفقة بكلمة «سائل»، التي تدلل على الوجه الحداثي لقراءتها، ومعرفة معانيها الباطنية والخارجية. وبالعودة إلى كتاب «الشر السائل»، نجده عبارة عن «محاورات فلسفية» بين الفيلسوفين، يحاول كل منهما أن يبسط رأيه لدلالة الشر وبيان كيفية شيوعه في العالم كله من خلال أمثلة واقعية تاريخية ومعاصرة، يخلص من خلالها الفيلسوفان إلى أن الشر مفهوم داخلي، يستعمر قلب الإنسان، بل يستوطن فيه، ويجعله باثا لمعان متعددة مثل، الكراهية والحقد والتعصب وخلق المشاكل بين الآخرين، ويبدأ ليونيداس دونسكيس بتوضيح المفهوم من خلال ربط العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جهة، وبين الإنسان وسلوكياته من جهة أخرى، ويخلص إلى أن الشر السائل هو ارتداء ثوب الخير والحب ـ في الظاهر ـ ومكامن الحقد والكره ـ في الباطن ـ لتكون رؤيته للأشياء متشعبة، ومتعددة، على اختلاف معاكس للشر الصلب، الذي يقوم على رؤية الأشياء من خلال لونيين اثنين فقط هما: الأبيض والأسود، كما إن الشر السائل (يُظهر) نفسه بأنه محايد ومجرد من الأهواء، وأن هدفه يكمن في حب التغيير الاجتماعي، بل يجعل من علاقته مع الآخر قائمة على القشور والشوفانية أيضاً.
التقنيات التي يتيحها الفيسبوك لمستخدميه بمثابة الوسائل التجريدية التي تكشف أسرار المستخدم، وتفضح مشاعره الباطنية، وإظهارها على الملأ.
إنَّ التقنيات التي يتيحها الفيسبوك لمستخدميه بمثابة الوسائل التجريدية التي تكشف أسرار المستخدم، وتفضح مشاعره الباطنية، وإظهارها على الملأ، ليشكل هذا «إمكانيات الخطر القاتل والشر المميت، فالفيسبوك ظاهرة (إفعل الأمر بنفسك)» بمعنى إكشف سرك بنفسك عن طريقك أنت فقط لا غيرك، ليسلب بذلك حريتك، ويجعلك تائها مع ذاتك أمام الآخرين، ولعلنا لو قمنا بدراسة إحصائية لأكثر المشاعر تعبيرا على الفيسبوك، لوجدنا أن عبارة «فلان يشعر بالحزن، يشعر بالغضب، يشعر بالقلق أو يشعر بالخوف أو..» الأكثر حضورا على جداره، بالإضافة إلى «خطابات» اليأس والإحباط والتذمر والشكوى، التي تشكل هي الأخرى ظاهرة متفشية في فكر الكثيرين من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، معتبرين الفيسبوك وغيره «الأداة» الأكثر وثوقية بما يدور في عقولهم وما تمليه عليهم قلوبهم، متغافلين عن الآثار التي من الممكن أن تنتجها تلك الثقة، ومتجاهلين لعواملها السلبية على المجتمع الذين يعيشون فيه.
أصبح «التعبير الشعوري» على الفيسبوك ظاهرة دلالية، تتضمن صورة معبرة عن الواقع الآني الذي يعيشه المستخدم «المُعبّر» والكشف عن رأيه في «المُعَبّر عنه»، ووفق نظرية دونسكيس فإن مظاهر التعبير السلبية و «التظاهر» المبالغ فيه باقتباس الحكم والكلمات الرنانة، التي يمكن أن نطلق عليها «العبارات المساندة» لتوضيح رأي المستخدم، تمثل أكثر مظاهر الشر السائل، الذي يمكن أن يترك خطرا عميقا على المجتمع ككل، ولتفسير هذا المعنى، نأتي على بعض الأمثلة التي يلجأ إليها رواد الفيسبوك ومدمنوه، ممن يجعلون من جداره «وسيلة» لتخليد مشاعرهم بمعانيها السلبية والإيجابية؛ وإن كان الشعور الأول هو ما يهمنا في هذا المقال. في حال وجود صراع بين رجل وزوجته نجد أن كلا منهما، يلجأ إلى الفيسبوك للتعبير عن «الحالة» التي يمرون بها، فالرجل يكتب على صفحته، على سبيل المثال، «ليقولوا ما يريدون، لم يعد الكلام يعنيني»، وتعبر زوجته قائلة: «الله على الظالم»، وهكذا، تتكاثف التعليقات على كلا المنشورين، ويبدأ الرجل بالاعتزاز بذاته بالرد على أصدقائه بعبارات المجاملة التي يقوم معظمها على النفاق، ويتضمن الكثير منها معاني التشفي وحب العداء، لأن الإنسان العارف بمشكلة هذين الزوجين، ويكتب على صفحة الرجل: «كلام سليم»، وعلى صفحة الزوجة: «آمين»، هو إنسان يضمر في نفسه الشر، ويظهر لهما الحب، ليوثق منشور كلا الزوجين معاني الشر السائل وهما متغافلان عن كل آثاره عليهما، فالأصل في المشكلة أن تكون بعيدة عن مظاهر التعبير الفيسبوكية، التي لا تغني الحدث ولا تملي عليه شيئا، بل على العكس، تزيد الأمر سوءا، بأن تجعل أصحاب الشرور المضمرة من أصدقاء الزوجين، يخبر أحد أولياء أمورهما، وينتقل الخبر من فلان إلى آخر وتتسع رقعة المشكلة التي كانت في البداية صغيرة، ومع التعبير الشعوري أصبحت مشكلة عظيمة، قد تؤدي إلى تفكك الأسرة وتدميرها بشكل نهائي.
يقول دونسكيس، متحدثا عن أثر الفيسبوك: «إنّ ما اختفى حقا هو ببساطة ما كُنّا نُطلق عليه حقا وصدقا كلمة «سر»؛ لقد صار السر بضاعة معروضة للبيع..».
ومن أشكال التعبير الشعوري أيضا، استخدام عبارات التشاؤم والخوف واليأس والقلق والغضب، وهي العبارات الوصفية التي تلازم الحالة الآنية التي يعيشها المستخدم، وأرى أنها عبارات توضيحية لمعنى «الشر السائل»، فنقرأ في صفحة أحدهم، على سبيل المثال، عبارة «الأقارب عقارب»، التي يرى فيها المستخدم العبارة التزينية التي تعبر عما يجول في خاطره، وأنا أرى أنها تمثل «العبارة الفاضحة» عما تضمره مشاعره من كره وحقد على أحد ما من أقاربه لأنه على خلاف فردي معه، ليجعل من خصوصية المشكلة عمومية مفرطة لا حاجة لها، تجرد صاحبها من كل مظاهر الاحترام والمحبة بين الآخرين داخل المجتمع الواحد، وقد يلجأ البعض الآخر إلى المخاطبة غير المباشرة، وكتابة بعض العبارات الإشارية التي تحيل إلى شخص ما في ذهن المستخدم، لتكوّن تلك العبارات بعض الشكوك وتفرض بعض الأسئلة حول الشخص المقصود من وراء كتابة تلك العبارة، وهذا لا يعتبر ذكاء من المستخدم، وإنما هو صورة أخرى من الغباء في فضح أسراره، فمجرد الترميز الذي تقصد به فلانا بدون تحديد هويته والتصريح بغضبك منه كشف لأسرارك، ولذلك يقول دونسكيس، متحدثا عن أثر الفيسبوك: «إنّ ما اختفى حقا هو ببساطة ما كُنّا نُطلق عليه حقا وصدقا كلمة «سر»؛ لقد صار السر بضاعة معروضة للبيع..».
٭ كاتب فلسطيني
شكرأ دكتور مليطات. أمتعتني مقالتك وزادت الى معرفتي