أحيانا وحين نكون في بعض المناقشات الجامعية أو في بعض المؤتمرات العلمية، نكون ملزمين بالحديث في وقت ضيّق تحدّده لنا الجهة المنظمة ويسهر رئيس الجلسة على تطبيقه، بعض من الكيّسين منّا، وحين يأخذه الكلام وينسى كم مَضى من الوقت وهو يتكلم، وكم بقي له من المهلة الشرعيّة يسأل رئيس الجلسة: متى ينبغي لي أن أسكت؟ بعض اللطفاء من الرؤساء قد يجيبونه بدعاء: لا جُرم لك كلام، ويردفون يزال لك من الوقت كذا دقيقة.
لكن السؤال: متى ينبغي لي أن أسكت؟ وخارج هذا السياق سؤال مهمّ يعتمده من يعلّمون الناس الأدب أو الواعظون الذين يشترون بالوعظ ثمنا قليلا ولا يعلمون أن من لا يعرف متى ينبغي له أن يسكت لا يعرف متى ينبغي له أن يتكلّم. إن سؤال متى ينبغي لي أن أسكت؟ يقع في جوهر التساؤل عن قيمة الكلام نفسه، لكن إيّاك أن تعتقد أنّه سؤال في الزمان المقيّد؛ هو سؤال في الزمان المفتوح والمنفتح على أطر الكلام ومقاماته وعلى الشروع في الكلام والفراغ منه.
أن تسكت شيء وأن تصمت شيء آخر، ومع احترامنا لكلّ من اجتهد في البحث عن الفرق بين الصمت والكلام فإنّ المسألة شائكة بينهما ولا يمكن أن يفضي البحث المعجمي إلى شيء في هذا، فكلّ ما يقال في الصمت على أنّه سمات مميزة يمكن أن يقال أيضا عن السكوت بما هو كذلك؛ الفروق بينهما هي وجهات نظر لا غير، لذلك سأنظر في المسألة من بوّابة اللغويّين واللسانيّين فأسأل عن السبب الذي جعل النحاة العرب يميلون في اصطلاحهم إلى عبارات السكوت وما اشتقّ منها ولا يميلون إلى الصمت ومشتقاتها؟
كان النُّحَاة العرب القدامى أميل إلى لفظ «السّكوت» منه إلى لفظ الصمت واشتهر لديهم حرف مميز هو «هاء السكت» وهو هاء ساكنة تلحق آخر الكلمة ومثالها في القرآن في سورة الحاقة في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) (19) هاء السكت هي التي في (كتابيَهْ) أضيفت لإبراز الوقف وهو صمت يقطع بين كلامين، أو جملتين يكون بعده استئناف للكلام فيعني السكت هنا ضربا من القطع المؤقت للكلام؛ لكنّ السكت بالهاء ليست انقطاعا كليّا أو فجائيّا للكلام، بل هو إعلام له بواسطة حرف بعينه بأنّ هناك وقفا.
من المُمكن أن نقف على السكون إيذانا بالوقف مثلما هو الحَال في سائر الكلام الذي يعمل عند النحاة بقانون: لا يبدأ بسكون ولا يوقف على حركة؛ لكنّ الهاء تزيد الوقف إشعارا وفخامة بالارتكاز على الحرف وليس فقط بحذف آخر حركات الكلمة التي عليها يتعيّن الوقف. في الهاء من عمق المخرج (فمخرجها حلقي) ومن الرخاوة والهمس والانفتاح ما يجعله صوتا مُناسبا للإشعار بالسكوت، وليس بالوقف. الوقف زوال الحركة إيذانا بالقطع السريع أو الخفيف للكلام؛ هو انتقال من حركيّة الأصوات إلى سكونها؛ لكنّ في الهاء إيذانا بأنّ الكلام ذاهبٌ بالصوت إلى مستقرّه في أقصى الحلق وبأنّ النفس يتدفق سريعا مدركا نهايته وأنّ ثقل النطق وخفاءه دليل على أن الكلام لن يقف من جديد إلاّ بعد راحة وهجعة وسكوت. الفرق بين السكون والسكت أن السكون هو تعطيل مفاجئ لجهريّة الحركة الجهري بينما السكت بالحرف هو تليين للصوت عموما وجذب له إلى الارتخاء ثمّ التوقّف. أن السكت يعني عموم حركة الصوت اللغوي، ولذلك تعتمد كثير من اللغات الهاء في ما يعرف بعبارات التعجّب ولنا في العربية (آه!) التي يعاملها النحو العربي على أنّها اسم فعل تعني التأوّه أو التألّم لكنّها تستعمل أيضا في أغراض إنشائيّة أخرى كالارتخاء والانتشاء والفرحة والتنهد والمفاجأة وغيرها، وهي تدلّ في عمومها على أن الأصوات اللغوية لم تفقد قيمتها الانفعالية البدائية التي كانت أمّ الكلام.
السكوت أي أن لا تقول كلاما لا يعني بالضرورة أن ذهنك ليس في سياق معالجة للكلام، هنا يمكن التحدث عن الصمت لا عن السكوت. الصمت هو القطع للصوت الذي يسمع هو تسمية للهجوع الطبيعي، من وجهة نظر التفاعل المسموع مع الكون.. حين يصفّر القطار ثمّ لا نسمع له صوتا بعد ذلك نكون في حالة صمت عن سماع القطار، وليس في حالة صمت كلّي.
الكلام نشاط جسديّ يعتمد أعضاء هي جزء من أجسامنا، لكنّنا ومن فرط ممارستنا لنشاط الكلام لا نعتقده نشاطا بدنيّا بل نحن في الغالب نعتبر الكلام نشاطا ذهنيا وهذا الفصل لا يروق للسانيين من ذوي التوجه النفسي الذين غالبا ما يدرجون ما نحن فيه الآن ضمن ما يعرف بإنتاج الكلام وهو باب مهمّ من أبواب علم النفس العرفاني، يدرس المراحل التي يقطعها الكلام من الذهن إلى الفم، كما يقول بوك Bock؛ في هذه المرحلة المعقدة والمفرطة في السرعة في أن يمرّ المتكلم من تمثيلات ذهنية إلى تشكيلات نطقية هي الأقوال مرورا بأشكال من المعالجة فيها بحث عن المخزّن وتنشيط له وإكساء بالأصوات، فنحن ننتج بين كلمتين أو ثلاث كلمات في الثانية، وهذا ما يجعلنا بما نحن بشر أعظم مصنّع للأشكال اللغوية في مصانع الكلام.
بالرجوع إلى السؤال الذي طرحناه في العنوان: متى علينا أن نسكت؟ يصبح من الصعب الحديث عن سكوت من غير كلام، ومن الصعب الحديث عن كلام من غير وجود تصوّرات وتمثيلات ونوايا في أذهاننا. حين تنتهي النوايا التي لنا حول الكون سنسكت إلى الأبد؛ السكوت الذي يعني أنّنا لن نتصوّر ما سنقوله قبل أن ننطق به هو حالة موت وزوال لعمل الذهن وتفاعله مع أحوالنا ووضعياتنا في الكون. فالسكوت عن الكلام لا يعني البتة أن الذهن لا يتحدّث بتصوّراته بالحروف النفسيّة وبالملكة التصوّريّة، السكوت يعني فقط أن الفم لم ينطق بما شكلناه من أصوات هي رموز نريد أن نُسمِعها غيرنا عمّا دار في خلدنا من نوايا وصور. نحن لنا فرصة للسكوت كلّ مرّة كانت لنا فرصة للكلام، السكوت فرصة لأنّه يخلد أجسادنا للراحة ويقلّل نشاطنا الذهني المرتبط بالكلام، لكنّه لا يمنع أذهاننا من أن تتفاعل وهي صامتة مع الكون المحيط، لكن بأدوات إدراكية أخرى.
السكوت أي أن لا تقول كلاما لا يعني بالضرورة أن ذهنك ليس في سياق معالجة للكلام، هنا يمكن التحدث عن الصمت لا عن السكوت. الصمت هو القطع للصوت الذي يسمع هو تسمية للهجوع الطبيعي، من وجهة نظر التفاعل المسموع مع الكون.. حين يصفّر القطار ثمّ لا نسمع له صوتا بعد ذلك نكون في حالة صمت عن سماع القطار، وليس في حالة صمت كلّي. وحين تتكلم وتؤمر بأن تصمت فيعني ذلك أن صمتك هو أفضل من كلامك، لأنّه يربك الإدراك الغيري الذي تكون فيه لاقطات الصوت مركزة على أشياء أهمّ من تصويتك. الصمت حالة كونية تنقطع فيها أصوات مألوفة كان من الممكن أن تحدث جلبة، لكن السكوت حالة لغوية إنشائية يكون فيها التقطيع الصوتي متوقفا، لكنّ إنتاج الكلام يعود إلى مرحلة إنتاجه البدئية: يعود ليصبح نوايا تريد أن تصبح قولا وكلاما.
متى عليّ أن أسكت؟ سؤال انتظر مني القارئ أن أجيبه عليه من غير بوابة اللغة، مثل بوابة الآداب والأخلاق والمعاملات، أو حتى الحريات.. صحيح أن كثيرين يطرحون على أنفسهم أسئلة من هذا النوع حين لا يعرفون متى يصلح الكلام ومتى يصلح السكوت.. لكنّ اللسانيّات لا تبحث البتة عن نفعيّة السكوت وزمانه المفيد، هي جعلت لتبحث عن نفعية الكلام واسترساله وإفادته، أمّا السكوت فهو لسانيّا لا يمثّل شيئا دقيقا، فحين تسكت تكون في مطبخ الذهن تستعدّ لمعالجة جديدة للكلام. لذلك ليس من الشرعيّ أن نسأل لسانيّا: متى عليّ أن أسكت، فهذا سؤال عبثيّ لسانيّا: صحيح أنّنا حين نتكلم قد نعبث بالكلام لكنّنا حين نسكت لن نكون من العابثين.. إنّنا عندئذ في صفوف العابرين بين كلامين مباحين أو محرّمين خاطئين أو صائبين : لا يهمّ.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية