أمشي هذا الصباح وأغنية لا تكاد تغادر ذهني أردّدها بيني وبين نفسي وأترنّم سمعتها هذا الصباح هي للسيدة فيروز ( يا حلو يا قمر يا ندي على غصن شجر). هذه الأغنية نفسها شغفت بها وأنا طالب في الجامعة، وظللت أكررها وأعيد سماعها لمرات. يبدو أنّ هوسي بها قد عاد إليّ هذا الصباح بعد أكثر من ثلاثة عقود لكنّي أعرف أنّه سيمضي سريعا.
للسان بما هو عضو من أعضاء الجسد، علاقة وطيدة بالعاطفة التي رمزها القلب، وبالعين التي ترى الموجودات من حولنا؛ والمرئيّ في صلة كبيرة بالعاطفي والحسّي وهذا ما يمكن أن ندركه في هذه الحالات التي يجتر فيها اللسان مقاطع من أغنية أو يعيد فيها جملا أو مقاطع من الشعر أو مواقف مسرحية.. ما جعلني أعيد أغنية السيدة فيروز اليوم بيني وبين نفسي هو نفسه الذي يجعل المرء يتحدث بأصوات نفسية باطنية وهي أصوات لا تخرج إلى الملأ، كما تخرج الأصوات الطبيعية في حال الصراخ الساذج أو اللغة المتواضع عليها. إنّها أصوات تظلّ تدور بينك وبين نفسك، تسمعها أنت وحدك لكنّك لا تقولها، بل إنّك قد تقولها إن خلوت إلى نفسك واعتقدت أنك في منجاة عن عين تراقبك أو أذن تسمعك.
هناك شيء عند العرفانيين وهم قوم يشتغلون بمعالجة الذهن للمعلومات، بالإضافة إلى مشاغل أخرى لا تعنينا ههنا، يسمونه التمثيلات Representations وهذا مفهوم أساس يكاد لا يغيب عن مفاهيمهم ومتصوراتهم وتعرّف التمثيلات بأنّها «كيانات عرفانية تقيم علاقات مطابقة مع كيانات خارجة عنها، ويمكن أن تُستبدل منها بما هي مواضيع معالجة» (Guy Tiberghien). وللتبسيط يمكن أن ننطلق من ضرب من التمثيلات معروف يسمّى التمثيلات الفيزيائية، التي يمكن أن نجدها في الأيقونات التي من نوع الصور الشمسية أو التماثيل التي هي تمثيلات ملموسة ومرئية لأشياء مرجعية هي أنت في الواقع، إن كنت موضوع الصورة أو الرسم أو التمثال.
التمثيلات الذهنية هي بلغة تقريبية صور ذهنية نبنيها في الذهن عن كيانات حقيقية، سواء أكانت بشرا أم وقائع أم أفكارا، وعادة ما تحدث بناء على تفاعل بين الإنسان والكون، ويمكن أن تخزن هذه التمثيلات وتنشّط كي نستعملها في الكلام أو في التصور.
ما يجعلني أفهم كلمات أغنية فيروز (يا حلو يا قمر) أنّ لي تمثيلات ذهنية لهذه الكلمات فأنا لا أخزّن في ذهني معجما من كلمات أعرفها، بل أخزن أيضا تمثيلات ذهنية أبنيها عن ( الحلو) وعن (القمر) وعن (الندي) وعن (الشجر) بل إنّ التمثيلات الذهنية التي تجعل الحلو يعني هنا المعشوق، هي شيء مخزّن في ذاكرتي ذات المدى الطويل فأنا لا أعلم العلاقة بين الحلو والجميل، بما هما تمثيلان متباعدان؛ غير أنّي أعلم أنّ الحلو المقصود به ليس أكلا، بل شخصٌ وأنّ الندى هو أيضا ذلك الشخص وليس قطرات الماء الصافية الواقعة على غصن الشجر. أنا لا أعرف بالضبط متى اكتسبت هذه المعطيات وخزّنتها في ذهني، لكنّي أعرف أنّ لي تمثيلا للبشر كيف يضحي – إذا حَلا – موضوعا للاستهلاك لكنّه استهلاك من نوع آخر لا يؤكل ولا يشرب بل يعشق.
لقد عبرنا من تمثيلات ذهنية مصوّرة إلى تمثيلات ذهنية مجردة، لا لأنّه لا وجود في أذهاننا لمثل هذه التمثيلات، فللحب والعشق والجمال والافتتان تمثيلات ذهنية مجردة تجعلنا نفهم هذه العبارات، حين تذكر لنا لكنّ هذه التمثيلات لا وجود لها في الخارج الملموس، بل لها وجود في اللغة وفي الفكر
نحن نتحدّث الآن عن ضرب من التمثيلات الذهنية مصوّرة تعلقت بتمثيلات ذهنية مجرّدة. التمثيلات الذهنية المصوّرة هي التي تقيم علاقات مطابقة مع ما تمثّله ويكون التطابق بالمشابهة، ويمكن أن نجد لها نظيرا ملموسا من مثل (ندي وقمر وشجر) وهي أشياء نراها بأعيننا، وحين نراها نتعرف عليها لأنّ في ذهننا تمثيلاتها التي ترشدنا إلى أنّها هي. فالأسماء تعيّن هذه التمثيلات وليست الأسماء هي التمثيلات نفسها، مثلما قد يذهب إليه الظن. لذلك يحدث ألاّ نفهم الأسماء التي لم نصنع لها في أذهاننا تمثيلات. فعلى سبيل المثال أفهم أنا ما يعنيه الاسم (غول) رغم أنّي لم أقابل غولا في حياتي؛ أنا أفهمه لأنّي بنيت له تمثيلا في ذهني. بيد أنّ من كان محظوظا وعاش في بيئة لم تبن له غولا في ذهنه، فإنه لن يعرف ما يعنيه هذا الذي يتسمّى بهذا الاسم. ليس الغول تمثيلا مصوّرا لأنّه لا يحيل على مرجع ملموس مثلما تحيل عليه شجرة وقمر، لكنّه ليس تمثيلا مجرّدا مثلما هو تمثيل الجمال والحبّ و الإعجاب، التي تضمن في أغنية السيدة فيروز .
لقد عبرنا من تمثيلات ذهنية مصوّرة إلى تمثيلات ذهنية مجردة، لا لأنّه لا وجود في أذهاننا لمثل هذه التمثيلات، فللحب والعشق والجمال والافتتان تمثيلات ذهنية مجردة تجعلنا نفهم هذه العبارات، حين تذكر لنا لكنّ هذه التمثيلات لا وجود لها في الخارج الملموس، بل لها وجود في اللغة وفي الفكر مثلما هو الحال بالنسبة إلى تشبيه الأغنية هذا الحلو الذي يغري بجماله باستعمال أشياء مرئيّة أو مسموعة تحيل على العاطفة والقلب هو مسكنها. أنا حين أعيد مقطع السيدة فيروز بلحنه لا أحتاج أن أسمع نفسي أغني لأنّ لي مفاتيحي التي أجدها في مثلت اللسان والقلب والعين. لساني الذي لا ينطق يظل عضوا في حالة استعداد للنطق بما يدور في نفسي الباطنة من كلام مغنّى ذي لحن. صحيح أنّه عضو لا يفعل فعلا فيسيولوجيا بأن يقطع الكلام ويُسمع من هو في حضرتي مستعدا للسماع، لكنّه يظل العضو الذي يجعلني أفهم أصواتي النفسية، دون أن تُنطق لأنّي وأنا في وضعيّة من يستحضر الأغنية أقيس الأصوات غير المنطوقة على تلك التي أنطقها وأفهمها وهذا يعني أنّني وأنا أنطق فعلا أكون قد نشّطت حروفي وكلماتي والعلاقات الإعرابية في ذهني وجعلتها على أهبة أن تنجز . هو أمر يشبه من أحضر النّوتات والآلات وهو ينتظر إشارة عصا قائد الأوركسترا كي تعلن بداية العزف. لكنّ عازفا هاويا يمكن أن يقرأ الجملة الموسيقية على النوتة ويعيدها في نفسه ويهيم بها قبل أن يعزفها.
أن تهيم بما يدور في نفسك من أغان يعني أنّ وراء اللسان قلبا يدفعه إلى أن ينفعل كي يتكلم كلاما نفسيا فيغني في صوت ويتفاعل بالكلمات التي لا تقال قبل أن تقال؛ وبين اللسان والقلب ترفّ عين لترى ما لا يرى، ولا تأبه لما يرى فعلا؛ وهي تمشي في الشارع فترى المارّة والسيارات واللافتات وأدخنة المصانع، لكنّها ترى حلوا قمريا وندى على الشجر ولا تتفاعل هذه العين مع ما تسمع من أصوات الضجيج في الخارج بل هي تدعو هذا المتمايل على صوت فيروز إلى أن يمشي على الرصيف. هناك قائد وحيد للأوركسترا هو الذي يتحكم في مثلت اللسان والقلب (بما هو رمزنا هنا للعاطفة) والعين: هو العقل إنّه هو الذي يجعلني أمشي هذا الصباح مترنّما منتشيا ولا أضيع المسار ولا أضع نفسي على مهالك الطريق ؛ أرى السيارات والأشجار معا وأرى الحلو والمرّ معا والندى وغدير الطريق.. الذهن يعالج كل ذلك في صمت، فقط حركة عصاه بما هو قائد للأوركسترا هي التي تهتز والكل يعزف في انسجام إدراكي فريد.. يمكن للعقل أن يأمرني بأن أتمايل على صوت الموسيقى، لكنّه قائد لا يتمايل لأنّه لو فعل لذهب كلّ شيء بكلّ شيء.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية.
وهو لعمري مثلث خطير فإما أن يقود بصاحبه إلى بر الأمان وإما إلى واد سحيق
نص رائع ومشوق