يتحدّث العديد من المؤلفات والشّهادات عن غرابة تميّز مثلّث برمودا، الذي يتلخّص في أنّ كلّ من يقترب منه أو يدخل فضاءه يُفقَد، هذا المثلث مُحاط بأسرار وبألغاز وبتأويلات تصل إلى حدود التبريرات الأسطوريّة العجائبيّة في انتظار الحسم العلمي. هذه المميزات التي يختصّ بها هذا المكان قد تُسحب على الواقع العربي راهنا الذي تداخلت فيه الأدوار والتّأويلات والزّعامات والمتدخّلون في الشأن العربي فجعلته واقعا عجائبيّا لا يخضع لمنطق ولعقل حسابي ولرؤية واضحة تفسّر ما يقع وتكشف عن مختلف الأبعاد التي تحيط وتسيّر هذا الواقع. المتابع للثورات التي قامت وتلك التي مازالت تتخبّط في الدّماء وتلك التي ماتزال كامنة يلاحظ وجود العديد من الصعوبات والسّلبيّات التي تحيط بها وذلك يساهم في تغيير وجهتها والقضاء عليها، والمشكل هو تشابك الداخلي والخارجي ممّا يجعل التمييز بينها ووضع الحدود بينها شرطا لفهم عوائقها. البعد الاقليمي والعالمي في الثورات: قبل ظهور الهيجان ـ أستعمل هذا المصطلح اللغوي لأبيّن أنّ الفعل الثّوري لم يكن كذلك، بل هو حركة محاطة بالمجهول ـ عاشت الدول على وقع سيطرة كاملة للأحزاب الواحديّة الحاكمة اذ أنّها جعلت من المجتمعات قطيعا ورعاعا وليس رعيّة يرعاها حاكم عادل، فقتلت كل محاولة للنقد والمعارضة والابداع والحرّيّة واستعملت لذلك ميزانية ضخمة تُفتكّ من قوت الشعب ومن البنية التحتية فصنعت إعلاما وتعليما وخُطَبا تمدح الحاكم وتجعله العادل والزّاهد في المليارات وفي العرش وفي توريث كرسيّه لأهله، وفي ذات الوقت كان هذا الحاكم مؤتمرا بأوامر الدول العظمى التي تهبه الاعانات والقروض، التي يدفعها الشّعب، لتحافظ على بقائه بما هو المطبّق لأجنداتها من دون قيد ولا شرط. غياب الرّهانات: الانتفاضات التي بدأت عفويّة تقريبا كان هدفها المباشر التخلص من السّلطة السّائدة والواقع المتردّي على مستويات عديدة لكنّها لم تكن تحمل معها رؤية واضحة لمطلوبها وللمسار الذي يمكن اتّباعه بعد انهيار الحاكم، لذلك عاشت المجتمعات الثائرة اندهاشا، عفويّا او عقليّا، حين رأت أنّ الواقع المابعد ثوري بدأ يخبط عشوائيّا على مستوى المنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، خاصّة بعد ظهور أحزاب وحركات وتنظيمات لم تشارك في الهيجان، بل هي تفاجأت بالواقع الجديد الذي قدّم لها الحكم على طبق من شوك، نظرا للإرث السّلبي الذي وجدت عليه البلاد، والعجيب في هذا أنّ هؤلاء الحكّام الجدد لم يعرفوا – وما السياسة إن لم تكن معرفة بالحاضر وبالمستقبل الممكن – أنّ ما ينتظرهم ليس العرش الوثير بل هو إعادة بناء لما تمّ تخريبه لعقود، لذلك كانت تصريحات أغلبهم تأكيدا على أنّهم لم يتوقّعوا الصعوبات التي وجدوها. ثقافة الصّراع عوضا عن الاختلاف: العنف هو ميزة الرّاهن العربي فكل طرف يريد القضاء على الآخر فظهرت مصطلحات جديدة مثل: خائن، كافر، عميل، متعصّب، من أزلام النّظام … وهذا أمر عجائبيّ فكيف لواقع مابعد ثوري أن يتأسّس على ثقافة ليست ثوريّة. فالثّقافة الجديدة منقوصة من وعي يجعل الجميع قادرين على الانخراط في عقليّة حوار وجدل منتج وتبادل للآراء وللمواقف عوضا عن الرّصاص والموت. لقد عدنا من جديد وبسرعة غير متوقّعة لثقافة الانتصار والتعصّب للحزب الواحد والمرجعيّة المطلقة وللمنهج الأوحد، ألم تكن هذه هي ميزة الواقع العربي ما قبل الثورات، فأيّ جديد أنتجته الثّورات في مستوى تأسيس لنمط تفكير مغاير للسّابق؟ أمّا على المستوى السياسي فنلاحظ أنّ الرّغبة الوحيدة التي تحرّك الحاكم الجديد والمعارضة هي إقناع أكثر عدد من التّابعين والمريدين طلبا للعرش وللتّمديد في الحكم من دون منهج اقتصادي وسياسي وتعليمي واجتماعي واضح، فأصبح المواطن ليس الغاية من العمليّة السياسيّة بل هو الرّقم الذي به ينتصر حزب ما، فهو في كل الحالات ‘ قُربان من حطّوا ومن رحلوا’. التردّد بين الماضي والمستقبل: من عجب الثورات أنّها دخلت في مجهول يتمثل في انقسام الأحزاب والمجتمع إلى نمطين من التشريع للدّولة المفترضة مستقبلا: إمّا الاحتكام إلى مرجعيّة دينيّة أو المعتقد الواحد هي في الأصل مرجعيّات (الإسلام المعتدل – دولة الخلافة) أو الدّولة الحديثة وتعدّد المعتقدات او هو ما يجسّد غياب التصور الواضح والمحدّد لما تريده الثّورات من رهانات ربّما لأنّها قامت وقد أجّلت غاياتها لما بعد انتصارها على الحاكم. مثلّث الغرابة: أعتقد أنّ العلم سيكون أسبق في تفسير الأسرار المحيطة بمثلّث برمودا في حين أنّ فهمنا لواقع عربي تردّى في التشتّت وفي المجهول وفي الفوضى وفي غياب الوعي الحادّ بالنقائص سيكون مُؤجّلا لقرون أخرى لسبب عميق، هو أنّه لا يمكن بناء سياسة وحكم ومجتمع وفرد واقتصاد وثقافة وعدالة اجتماعيّة إلاّ إذا بدأنا بتأسيس الأصل وهو بناء عقل قادر على الفهم والتخطيط والحوار وقبول النقد وتبادل الأدوار خدمة للمواطن وللوطن وليس تطبيقا لأجندة خارجيّة ومعها تحقيق مصالح فرديّة وأسريّة وحزبيّة. لا يمكن فهم ما يقع في الواقع العربي إلاّ عند معرفة كل المتدخّلين فيه القريب والبعيد وهو أمر غاية في التعقيد وفي التداخل وفي التخفّي.