عماد مفرح أفرزت الثورات العربية الحديثة تغيرات في الحالة السياسية لكل بلد، عبر استنادها على نزول الجماهير إلى الشارع ومطالبتها بالتغيير، ما أدى إلى انقسام الشارع بين معارضين ومؤيدين، وظهور تباينات عميــقة بين فئات مسها ويمسها التغير في مصالحها، حتى في البلدان التي تمكنت من إجراء تغييرات في قمة السلطة، ظهرت بوادر الارتداد والإجهاض لما تحقق، وكأن قوى التغير وقوى الارتداد المناوئة لها، لم تستقر في ميزان الصراع السياسي.منذ بداية الربيع العربي، بدا واضحا مدى العصبية والارتباك الذي أحدثته هذه الاحتجاجات في النظم الحاكمة، سواء على مستوى الإجراءات، أو على مستوى الخطاب والرؤية، ارتباك انداح إلى الفئات المؤيدة لهذه النظم، لتعتمل في دواخلها مواقف متشنجة، ومتباينة حسب انتماءاتها ومصالحها، من قادة نافذين في الدولة ومؤسساتها، وأفراد من الطبقة البرجوازية الثرية، يضاف إليهم المجموعات المختلفة من جميع الطبقات الذين يفضلون الأمن والاستقرار على حساب القمع وغياب الحريات. وفي المقابل، تقف فئة المعارضين، من الشباب المنتمي إلى الطبقة العاملة الفقيرة، الطامحين إلى حياة أفضل، وأبناء الطبقة الوسطى، التي تضم متعلمين لم يجدوا فرص العمل بعد تخرجهم من الجامعات، إلى جانب فئات أيديولوجية ذات منبت يساري وإسلامي يطالبون بحياة سياسية وحرية تعبير أكثر. ترتكز إشكالية الخلاف بين المؤيدين والمعارضين، وبمختلف انتماءاتهم الطبقية والاجتماعية، على نقطة الأمن والاستقرار وعلاقتها بمفاهيم الحرية، فالمعارضون يجدون أن الطريق إلى الاستقرار المديد، يمر من خلال إشاعة الحريات العامة وتوزيع السلطات وإحقاق مبدأ العدالة الاجتماعية. بينما يرى المؤيدون ‘ضرورة الحفاظ على المكتسبات ووحدة المجتمع’، مخافة الصراع بين مكونات المجتمع الواحد، لذا باتت مقولة ‘إما نحن أو الحرب الأهلية ‘ شعارا عاما للنظم الحاكمة في البلدان العربية، تحاول من خلاله، مبادلة مفهوم الشرعية الدستورية وتداول السلطة، بالاستكانة للإستبداد حتى لا تؤدي الاحتجاجات إلى دمار شامل للبلد، نظرا لما كرسته هذه النظم وعلى مدى عقود من تشبيك جميع مناحي الحياة واستقرارها بشخص الحاكم وسياساته، وبناء سياقات ثقافية واجتماعية ومعرفية تحمل مزيجا من الخوف والمصالح، ومن الرهبة والتسامح. باتت ثقافة المؤيدين والمعارضين، في ظل اختلال مفاهيم المواطنة والوطنية عرضة للتعنيف والانفعال، يحاول كل طرف تفنيد حجج الأخر وربطه بأجندة ‘غير وطنية’، معتمدة على آليات الإلغاء والإقصاء، كنتيجة للمنظومات الشمولية التي تداخلت في حياة الأشخاص وتفكيرهم، ولم تترك لهم حرية التفكير خارج محدداتها المفروضة من قبل الدولة وأجهزتها، مشكلة حاجزا وحساسية عالية، تجاه أي رأي مخالف لما هو معهود. حتى بات المواطن يمارس عبودية ذاتية، تستحفز آليات الرقابة الذاتية، وتكرس تماهي الضحية بجلاديها، كعنصر أساس لسيادة الاستبداد، لذا لم يجد أي محتج أو مؤيد إلا أن يتعاطى مع الأخر بحساسية شاملة، لا تقبل الاحتواء أو التفاهم. في زخم هذه الحساسيات القائمة على ذهنية التخوين، لم تُعرف هذه المجتمعات نفسها في سياق يحتمل الرأي والرأي الأخر، بقدر تمترسها خلف معتقدات جعلت من مجتمعاتنا، مجتمعات أيديولوجية بامتياز، انعدمت فيها الشفافية وانغلقت فيها الحياة السياسية أمام الديمقراطية والتعددية، إلا على هامش طائفي وعشائري في بعض البلدان، الأمر الذي شكل موروثا ثقافيا وتربويا، يرفض النقد والاعتراف بالأخطاء. وزاده الإعلام المحفز مقاما، من خلال تجيش المريدين والمؤيدين، وتشويش حياتهم الذهنية حول ثوابت القضايا الأيديولوجية التي يؤمنون بها، كشيء منجز ومنته.إن شريحة من المؤيدين تبني موقفها على الخوف من التغيير لا على رضاها عن النظام، يضاف إليهم، شريحة أخرى، لا ترى في النظام إلا كقوة عارية وعنيفة، لذا يستوجب الاصطفاف إلى جانب القوي، مهما تكن شرعيته الأخلاقية والدستورية. اصطفاف يفسره ما آلت إليه مجتمعاتنا في ظل الأيديولوجيات الشمولية، التي حولت كل البنى المجتمعية إلى أنساق عقائدية مغلقة وجامدة، مع فارق الاختلاف في المسميات والشعارات، حيث شكل البعد الماضوي والطوباوي، الهارب إلى الماضي أو المستقبل، العامل الأهم في تبسيط الواقع المعقد، وتوحيد وتسكيت المختلف في بنية تلك المجتمعات، لتكون النتيجة الفشل في ظهور فلسفات خاصة تحرر العقل أو تبني منظومة أيديولوجية جامعة ومانعة، سواء اشتراكية أو ليبرالية أو قومية أو إسلامية. جوهر التوتر والمشاحنة بين المؤيدين والمعارضين، ناتج عن عدم ممارسة الطرفين للسياسة، كأحد فنون إدارة الصراعات، وتدجينها بطرق سلمية وعملية، إدارة احتكرتها النظم الحاكمة، التي فصلت السياسة عن المجتمع، وجعلته، لعقود طويلة، فعلاً نخبوياُ وسريا، وفي أفضل الأحوال شكلانيا. فالسلطة تمارس السياسة كنوع من الاستلزام والتعالي، اعتمادا على ‘إغلاق البلاد من الداخل، والمساومة عليها مع الخارج’. بينما تمارس المعارضة، السياسة كفعل تحد، وسلوك متوتر، تحدها الايدولوجيا وضعف الحيلة.واقع الحال، أن العلاقة بين المؤيدين والمحتجين، مُحمل ببعد عاطفي وتاريخي، حيث حكمت النظم السلطوية طبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع، بمنطقها وأنظمتها وتشريعاتها، مبعدة بذلك أي إمكانية لظهور فئات مدنية، تتنازل عن انتماءاتها الضيقة لصالح انتماء وطني أوسع، قادر على استيعاب فئات المجتمع وإعادة إنتاجه، ذهنيا وفكريا. ومع تهميش فكرة المشاركة السياسية، وتفشي الفساد والبطالة، زادت طبيعة الحياة الحديثة من تعقيد القضايا الاجتماعية والاقتصادية لأغلب الفئات، فانتشار ثقافة الاستهلاك مع تراجع أخلاقيات العمل، وتدني القدرات الإنتاجية، ادخل المجتمع في حالة من التنابذ والتباعد بين فئاته، الأمر الذي انعكس على غياب مساحات للحوار والرؤية المشتركة حتى بين أبناء الفئة الواحدة.ومختصر القول، أن علاقة المؤيدين والمعارضين التي يحكمها التاريخ، والوعي المؤدلج، هي علاقة الكائنات الأيديولوجية التي لم تمتهن السياسة، بقدر إيمانها بمعتقدات رأت في نفسها الكمال والحقيقة، وبمجرد امتلاكها للسلطة والنفوذ أزاحت الأخر وألغته من كل حساب، حساب يدفعه الجميع الآن من العرق والانفعالات، والدماء والدموع.’ كاتب سوري