لندن ـ «القدس العربي»: ربما تستحضر الثلوج التي تكسو مساحات شاسعة في أذهان الكثيرين فترة أعياد الميلاد بزينتها وبهجتها، لكن في فيلم «مجتمع الجليد» للإسباني خوان أنطونيو بايونا، المرشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، تتحول الثلوج إلى عدو لا يرحم ولا يبالي بضعف البشر.
بعد إحراز بعض النجاح في هوليوود مع أفلام مثل «المستحيل» (2012) الذي تدور أحداثه حول كارثة أخرى هي كارثة التسونامي الذي ضرب أجزاء واسعة في آسيا، من بينها تايلاند عام 2004، يعود بايونا إلى بلده وإلى لغته الإسبانية، بفيلم عن كارثة أخرى لا تقل فداحة وفجيعة عن التسونامي، رغم نطاقها الأصغر.
«مجتمع الجليد» أيضا مقتبس من أحداث حقيقية، ففي عام 1972 استقل فريق لكرة الرغبي من أوروغواي، كلهم من الشباب الهواة، وعدد آخر من المسافرين وأفراد الطاقم، الطائرة من مونتفيديو في أوروغواي في طريقها إلى سانتياغو في تشيلي، لحضور مباراة هناك، لكن الطائرة لم تصل وجهتها قط، حيث تتحطم في جبال الأنديز وسط الجليد الكثيف ودرجات حرارة أدنى من الصفر بكثير. تسقط الطائرة وتتحطم، لكن عددا من ركابها يبقون على قيد الحياة ليواجهوا طبيعة تكسوها الثلوج التي لا تأبه بضعفهم وجوعهم. وسط هذه الطبيعة الشرسة يصور بايونا فيلما مفجعا من حيث ما يصور من مأساة وألم، لكنه فيلم يفتقر إلى البعد النفسي إلى حد كبير. نرى رحلة هؤلاء الركاب المتبقين على قيد الحياة لمحاولة البقاء ومحاولة النجاة وإيجاد من ينقذهم، لكننا لا ندري ما يعتمل في نفوسهم، ولا نفهمهم. بخلاف عدد طفيف من مشاهد الفلاش باك، أو العودة إلى الماضي، لا نعرف لأي منهم قصة أو شخصية ولا نرى لهم بعدا نفسيا، بل يتحولون أمامنا إلى ما يبدو أنه فرد واحد يصارع الطبيعة، قد يفجعنا الحادث، لكن الفيلم لا يقدم لنا عمقا للشخصيات يسمح لنا بالتعاطف معها بصورة أكبر.
قد يفتقر الفيلم إلى البعد النفسي، لكن بايونا يقدم فيلما متقن الإخراج يتضافر فيه جهد فريقه لإنجاز فيلم مبهر تقنيا ومبهر صورةً. صوّر بايونا الفيلم في إسبانيا وفي أمريكا اللاتينية في مناطق تضاهي وعورة جبال الأنديز وثلوجها الكثيفة. كما بنى فريقه صورة طبق الأصل من أجزاء بدن الطائرة المحطم الذي اتخذه الناجون مأوى يتلاصقون فيه بحثا عن بعض الدفء. كما يصور الفيلم مشاهد تحطم الطائرة بدقة تنزع قلوبنا. نشاهد بأنفاس مضطربة الأجساد المتطايرة بفعل الاصطدام، والمقاعد المتناثرة، والعظام المهشمة، والأنين وبكاء الخائفين وصرخات من يبحثون عن أصدقائهم أو أقاربهم. هي مشاهد تتبدى فيها الصنعة الإخراجية لبايونا، ونجفل أثناء مشاهدتها، لكنها على الصعيد الإنساني للفيلم لا تقدم إلا القليل. فقد بعض ممثلي الفيلم أكثر من 20 كيلوغراما من وزنهم أثناء التصوير، حيث أخضعهم بايونا لظروف قاسية تحاكي ما تعرض له الناجون الحقيقيون، ونلحظ مع تطور الفيلم نحول أجسادهم وشحوب بشرتهم وتحلق أعينهم بالسواد.
أجساد ناحلة ودماء وأنين، هذا ما نراه في مشهد السقوط وما يليه من ارتباك. لا نميز أفرادا ولا شخصيات، ويمتد هذا طوال الفيلم بأسره. كانت الطائرة تقل 45 من الركاب وأفراد الطاقم كانوا على متن الطائرة حين سقوطها، ولم يعد من بينهم إلى ذويهم وأسرهم إلا 16، بينما هلك الكثيرون ليس نتيجة لتحطم الطائرة، لكن لعدم صمودهم أمام الطبيعة القاسية التي لا ترحم. لكن من مات ومن بقي لا نفرق بينهم، ولا يقدم الفيلم أي تطور للشخصيات ولا أي عمق نفسي. حتى بعد أن قام الناجون بفعل تقشعر له الأبدان، وهو أكل جثث الموتى للبقاء على قيد الحياة، لا يصور الفيلم لنا تأثير مثل هذا الحدث المزلزل على النفسيات أو الشخصيات. نرى تردد البعض ورفضهم أكل جثث الموتى في بادئ الأمر، لكن تحت وطأة الجوع، يصبح الجميع من آكلي جثث الموتى. عند وفاة أحد من تقطعت بهم السبل في الجليد، يكتب اسمهم على الشاشة بأحرف بيضاء لا نكاد نميزها وسط الخلفية البيضاء التي تخلقها الثلوج، وهذا يكاد أن يكون كل ما نعلمه عن الشخصيات أسماء باهتة التهمها الجليد.