لا يمكن اختزال الوضع الثقافي، في المغرب، في المعرض الدولي للكتاب، الذي ينعقد لمدة أسبوع في السنة، فقط، أو اعتبار المعرض، هو المناسبة الوحيدة لنشر الكُتُب، وعقد الندوات، واللقاءات، لينتهي كل شيء بانتهاء المعرض، سواء بالنسبة لوزارة الثقافة، أو بالنسبة للجمعيات، والمؤسسات الثقافية، أو الجهات والأطراف، المعنية بالشأن الثقافي، أو بالنسبة للكُتَّاب والناشرين، ووسائل الإعلام بمختلف مشاربها.
ما يعيشه تدبير الشأن الثقافي في المغرب من إهمال، من قِبَل الدولة، التي تبقى هي المسؤولة ، الأولى، والأخيرة، عن أسباب الإخفاق التي يعرفها هذا القطاع، خصوصاً في شِقِّه المادي، هو نتيجة لسياسة التهميش، أوالتجاهُل، الذي مارسته الدولة على قطاع الثقافة، منذ الاستقلال إلى اليوم. فميزانية الثقافة، تكفي لفضح هذا التهميش، وهذا التجاهُل، بعكس ما نجده في دول عربية أخرى، دون أن نذهب للغرب، الذي أدْرَك، في وقت مبكر أن الثقافة هي قطاع مُنْتِج، شريطة أو يَتِمَّ النظر إلى الثقافة، في معناها الشُّمولي، وباعتبارها إنتاجاً رمزياً، أو هي، تُمَثِّل، من حيث قيمتُها، نفس ما يُمثِّله العَلَم الوطني. أو هي بحسب التعبير الفرنسي ‘راية من نوع آخر’.
لعل أكبر، وأخطر المشكلات التي يعيشها الوضع الثقافي في المغرب، هي مشكلة القراءة. وهي بين أكبر المشكلات التي تنعكس على واقعنا التعليمي، بما يعرفه من انْحِسَارٍ، ومن انغلاقِ المؤسسات التعليمية، بأسلاكها المختلفة، بما فيها التعليم الجامعي، على ذاتها، وتراجع مستويات التكوين العلمي، والمعرفي، للمُتَعَلِّمِين، إن لم إقل، وللمُعَلِّمِين، أيضاً، أي من يُلَقِنُون هذه المعرفة، لغياب التكوين المستمر، من جهة، ولغياب، المُدَرِّس القاريء، والباحث، الذي يعمل على تحيين معرفته وتجديدها، بالقراءة، والإقبال على المعرفة، وليس فقط، بالاكتفاء بالجانب التقني المِهَني، الذي لم يعد كافياً في توسيع مدارك المُتَعَلِّمِين، وحَفْزِهِم على القراءة، والتثقيف العام، بغض النظر عن طبيعة الشُّعَب، أو المواد التي يدرسها هؤلاء التلاميذ والطلبة.
فحين تكون مكتبات، الجامعات، والمدارس التابعة لوزارة التربية الوطنية، إما مُغْلَقَةً، أو لا توجد فيها كتب، تُسايِر حاجيات ومتطلبات الطلبة والتلاميذ، في البحث، والرغبة في المعرفة، أو تكتفي بمراجع ومصادر، تعود إلى سنوات السبعينيات، أو الثمانينيات، في أقصى الحالات، أو هي فضاءات لا تتوفَّر على شروط التركيز، والبحث، أو تكون غير صالحة، تماماً كفضاءات للقراءة، ناهيك عن غياب المُشْرِفين، أو القَيِّمِين المُتَخَصِّصين، في هذا المجال، أو لَهُم به علاقة ما، فهذا يزيد من عزوف الطلبة، والتلاميذ، عن هذه الفضاءات، كونها غير صالحة، ولا تتوفر فيها شروط العمل، أو القراءة والبحث.
لا يوجد لدى وزارة التعليم، قانون مُنَظِّم للمكتبات، في ما أعلم، رغم ما يصدر من مذكرات، بين الفينة والأخرى، تؤكد على دور وأهمية المكتبات، وما يمكن أن يَسْتَحْدِثَة القَيِّمُون عليها من أندية، ومن لقاءات، وندوات، ومحاضرات، لها علاقة بموضوع الكِتاب، وبالقراءة، بشكل خاص. كما لا يوجد أي برنامج لتكوين القَيِّمِين، في تسيير المكتبات، ما يجعل تسيير هذه المكتبات، يبقى رهيناً بالجُهْد الفردي للقَيِّم، وبرغبته الشخصية في الاجتهاد، والتنشيط الثقافي لهذه الفضاءات.
فغياب التنسيق، في هذا الشأن بين وزارة الثقافة، ووزارة التعليم، ووزارة الشبيبة والرياضة، والجماعات المحلية، ووزراة الإعلام، ووزارة الأوقاف، أيضاً، هو ما يجعل يَدَ وزارة الثقافة تبقى مُقَيَّدةً، ولا تستطيع لوحدها حل مشكلة القراءة، والإقبال على المعرفة، والتثقيف الذاتي، وتوسيع مدارك المُتَعَلِّمين، وحفزهم على البحث والتساؤل.
غياب التنسيق بين هذه الأطراف، وبين هذه الأطراف، جميعِها، وجمعيات المجتمع المدني، في فتح أوراش القراءة، في المؤسسات التعليمية، وفي دُورِ الشباب، وفي المساجد نفسها، وفي وسائل الإعلام، من خلال برامج للتعريف بالكُتُب، وبالإصدارات المغربية الحديثة، وباللقاءات مع الكُتَّاب، والمفكرين، والمُرَبِّين، والناشرين، هو ما ساعدَ على ما يعرفه قطاع النشر والتوزيع من انكماش، وهزالة ما يصدر من كتب، من حيث كميتها، قياساً، بما يصدر في دول عربية، عدد سكانها أقل بكثير من عدد سكان المغرب، وعدد مدارسها، ومؤسساتها، المرتبطة بمجالات المعرفة، ليس بنفس ما يوجد عندنا في المغرب.
لماذا لا تكون سنة 2013، سنة النشر والقراءة بامتياز؟ ولماذا لا يتم إشراك الوزارات الأخرى، في هذا الموضوع، الذي هو موضوع يَهُمُّ المجتمع بكامله، ولذلك، فهو موضوع يَهُمّ قطاعات الدولة كاملةً، وليس وزارة الثقافة لوحدها؟
لعل من المفارقات التي يمكن للملاحظ أن ينتبه لها في المعرض الدولي للكتاب، هو غياب وزارتيْ التعليم العالي، ووزارة التربية الوطنية، عن فعايات المعرض، ووُجودهما خارج سياق هذا الحَدَث الثقافي، رغم أنهما معنيتان به، أكثر من غيرهما من الوزارات، ليس فقط بالحضور، أو من خلال برامج معينة، لها علاقة بقطاع التعليم، والمكتبات المدرسية، بل بالتمويل، والدعم، واقتناء الكتب، لتشجيع النشر والتوزيع، والتركيز على الكتاب المغربي، بشكل خاص، والكتاب الإبداعي، من شعر وقصة ومسرح، لِمَا تحمله هذه الكتب من قدرة على التخييل، وتنمية مهارات الطلبة، والتلاميذ، في الأبداع، والإنتاج، وفتح أواش الكتابة، داخل المؤسسات التعليمية، لنقل التلاميذ من وضع الاستهلاك والأخذ، إلى وضع الكتابة، والإنتاج، أي بوضع التلاميذ والطلبة، في سياق الوعي النقدي، التساؤلي، الذي يساعد، هذه الشريحة من المجتمع على تفادي كل أشكال التطرف، والفكر الأرثودكسي التحريضي، المُغْلَق، مما بات يُهَدِّد بعض مؤسسات التعليم، بنوعيه، الجامعي، وغير الجامعي، ويُهَدِّد الحياة العامة للناس.
لماذا لا يكون المعرض حصيلةً لعَمَل سَنويٍّ، ويكون فرصة لعرض ما تَمَّ إنجازه من خلا خطة العمل هذه، التي هي خطة عمل بأذْرُع مختلفة، تبقى مؤسسات الدولة، هي من تتحمل فيها المسؤولية الكبرى، ويبقى دور المجتمع المدني، رفقة المُعَلِّمين والمُدَرِّسين، هو البرمجة، والتأطير، ومُرافَقَة التلاميذ والطلبة، خلال مراحل التأطير. ولتكون هذه الخطة فاعلة، وذات مردودية، ينبغي أخذ مجهودات التلاميذ والطلبة، في هذا السياق، ضمن نقطهم السنوية، ليس باعتبار القراءة اختباراً، فهذا لا يساعد على حفز التلاميذ، بل باعتبار عملهم، وما ينجزونه من ابتكارات، وإقبال على القراءة، كنقط إضافية، ضمن مجموع ما يحصلون عليه خلال السنة من معدلات، بنسبة مئوية محددة.
بهذا المعنى أفهم معنى المسؤولية الذي ينبغي أن نتحمَّلَها جميعاً في الخروج بوضع القراءة والنشر والتوزيع، من الوضع الحَرِج الذي توجد عليه، ولعل دور وزارة الثقافة، سيكون هو دور المايسترو الذي يقوم بتنسيق الجهود، والبرامج، وتسهيل عمل الأطراف المختلفة، في علاقتها بمحتلف الوزارات، وذلك، طبعاً، وفق خُطَّة وطنية، جادة، ومسؤولة، لا مجرد شعار فارغ من المعنى.
سبق في أكثر من مقال، أن قلتُ نفس الكلام، وأشرتُ إلى مسؤولية وزارات أخرى في الموضوع، وهو ما أقره وزير الثقافة في محاضرته بالمعرض الدولي الأخير للكتاب، رغم أنه اكتفى بإزالة المسؤولية عن وزارة الثقافة، واقتسمها مع أطراف مختلفة، دون أن ينتبه لغياب وزاة التعليم عن فضاء المعرض، وغياب وزارات أخرى، هي ذات علاقة قوية بهذا الحدث الثقافي، الدولي.
فوزارة الثقافة، هي من ينبغي أن تبادر لإحراج كل الأطراف، ودعوتها للانخراط في هذا الورش الوطني الكبير، فبدون هذه الأطراف، وببقائها خارج المشهد الثقافي العام، فمشكلة ‘مجتمع بدون قراءة’، ستبقى قائمةً، وستبقى، باقي المشكلات المرافقة لها، قائمةً، ما سيجعل من العرض الدولي للكتاب، مجرد سوق سنوية لبيع الكتب، لا أقل ولا أكثر.
يقتضي الوضع الراهن، لِما نعيشُه من مشكلات اجتماعية، وثقافية، مرتبطة بالحاجة لمجتمع المعرفة، أو المجتمع القاريء، الذي ما يزال مُتَعَثِّراً عندنا، بشكل ملحوظ، وكبير، أن نُعَجِّل بفتح هذا الورش الكبير، والشروع في تنفيذ بُنوده، بشكل جدي وعملي، لا بالاكتفاء بالشعارات، والكلام العام، الذي لم نعد في حاجة إليه، فالوقت لا ينتظرنا، كما لا تنتظرنا رهانات التحديث، والتقدم، في مختلف المجالات والأصعدة.