هل من المعقول أن تلام المقاومة على أحداث 7 أكتوبر، من قبل البعض في السر والعلن؟ إنجاز المقاومة والعدوان الإسرائيلي الذي تلاه، جاء في ظل انعدام الأفق الواضح أمام إيجاد حلول جذرية للأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة المحاصر. قطاع يكابد الويلات تحت أنظار العالم، وصلت فيه الأوضاع المعيشية إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور والمعاناة. ووسط قناعة متزايدة على أن ما يحدث في غزة منذ انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار، إنما هو إدارة للموقف الميداني والأمني، بشكل يجعل الفلسطينيين رهائن المزاج الإسرائيلي في كل مرة. وهو مسار تستمر فيه العربدة الإسرائيلية، والتلكؤ في تطبيق أدنى مستويات التفاهمات الإنسانية.
لدى نتنياهو مصالح في تصدير أزماته عبر التصعيد العسكري، ولكن المقاومة الفلسطينية رغم كل ذلك حطمت الكثير من الأشكال الوظيفية العنفية للجيش «الذي لا يقهر». وهي تواجه ببسالة أعمال الحرب والعنف والإجرام والتهويد، حفاظا على الوجود الفلسطيني. وتداعيات المقاومة تُفاقم الأزمة الداخلية التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية، في ضوء مساعيها لإجراء تغيير في نسيج العلاقة القائمة بين سلطات الحكم في دولة الاحتلال. وقد بدأ الخلاف عمليا في حكومة المتطرفين الفاشيين والنسيج الهجين الذي جمعه نتنياهو من حوله، باستقالة أحد وزرائه. العلاقة بين بنيامين نتنياهو واليهود الأمريكيين الليبراليين كانت متوترة في كثير من الأحيان، لكنّه لم يسعَ قط إلى قطع العلاقات. ومع ذلك، فإنّ شركاءه في التحالف لديهم أفكار أخرى، وقد يكون عاجزا عن إيقافهم.
ربّما تُمثّل أزمة الإنسانية اليوم، وعنوانها فلسطين التي امتحنت حضارة ادعت الرقي، نهاية للمسار العالمي للحداثة الليبرالية التي كانت في نظر البعض «تحفةً أثريةً»
طبيعة الائتلاف الذي شكّله نتنياهو، وما نراه اليوم من تصعيد لسياسات التطرف والعنصرية، وتداعيات الحرب الكارثية، هو بداية تحوّل سيغير وجه «دولة الاحتلال». والقصة لم تعد متعلقة بنتنياهو، فهذا التحول أقوى منه. ومثل هذا التحالف بقيادة نتنياهو سيفكك إسرائيل وجميع مؤسساتها. وهو يعلم أن اليوم التالي للحرب يعني نهايته. بات واضحا أنّ الإمعان في محو الهوية الفلسطينية بشراكة أمريكية إسرائيلية، يتمّ تكريسه بقبول تعزيز الفاشية في إسرائيل، رغم أنّ موقفا أكثر إنصافا وقابليّة للدفاع عنه من الناحية الأخلاقية من شأنه أن يُساعد على تقليل حدّة المواقف العدائية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، التّي ساهمت في صنع التطرّف العنيف خلال العقود الأخيرة. ومن الواضح أيضا أنّ الرغبة اللامحدودة في حماية إسرائيل تُجبر الولايات المتحدّة على الدخول في علاقات مع حكومات شرق أوسطية، ليس لها إلاّ القليل من المعنى الاستراتيجي، أو الأخلاقي هي الأخرى. والامتناع عن رفع الفيتو في مجلس الأمن ليس تغيرا في سياسة الدعم الموجهة لإسرائيل، وإنما هي خطوة لا ترتقي لتخفيف السقوط الأخلاقي الأمريكي، الذي دعم كيان الاحتلال في حربه الاجرامية منذ اللحظة الأولى، والإدارة الأمريكية تعلم أنّ قرار مجلس الأمن لن يوقف مواصلة نتنياهو حرب الإبادة والتطهير. ألا تدرك واشنطن أنّ الدعم اللامشروط لكيان الاحتلال في حربه الهمجية يعقّد جوانب أخرى من الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، ناهيك من استجابة المجتمع الدولي. فحتى الآن، لم يكن سجله ناصعا في ما يتعلق بمحاسبة إسرائيل على انتهاكات القانون الإنساني الدولي، تماما كمواقف بعض الدول الخارجية حول قضايا مثل المستوطنات والقصف الهمجي على المدنيين الذي تمارسه الآلة العسكرية الصهيونية، تحت ذريعة الدفاع عن أمنها من الجماعات التي تسميها إرهابية في غزة المحاصرة. سيتعيّن عليهم، إعادة التفكير في الاعتقاد بأنّ الفلسطينيّين سوف يختفون ببساطة. وأن يبدأوا التفكير في حلول من شأنها ضمان الحقوق السياسية لليهود والعرب على حد سواء. والوضع غير الصحّي داخل المؤسسات السياسية الأمريكية المساندة بشكل مطلق لكيان الاستيطان والاحتلال، يمنع كُلاًّ من الإدارات الديمقراطية والجمهورية من السعي خلف أفضل المواقف. ويُضيف مشكلةً أخرى إلى التضليل المتنامي الذّي يعتري الخطاب الأمريكي العام. فحوى الأفكار الحاكمة للسياسة الأمريكية لم تختلف. يدعمون كيانا اتخذ قادته العنف أساسا لترسيخ أقدامهم في أرض ليست لهم، ولارتكاب مجازر دير ياسين وكفر قاسم وقبية واللّد والرملة، وسواها من المجازر اللاحقة في صبرا وشاتيلا وقانا وجنين، وصولا إلى مجازر وعنف الحكومة المتطرفة الحالية في غزة ومحاولات إبادة وتهجير شعب بأكمله.
ربّما تُمثّل أزمة الإنسانية اليوم، وعنوانها فلسطين التي امتحنت حضارة ادعت الرقي، نهاية للمسار العالمي للحداثة الليبرالية التي كانت في نظر البعض «تحفةً أثريةً لزمن معيّن ومكان مُحدّد». أمّا الآن، فالعالم يسير قُدما نحو الأمام. والسؤال هل لا يزال للنزعة الدولية الليبرالية مستقبل، رغم المشكلات التّي تُعانيها؟ وهل بإمكان منظمات الهيمنة الأمريكية للنظام الليبرالي التي تشهد حالة ضعف أن تواصل الاشتغال في السياسة العالمية بأفكارها وبواعثها العامة المنظمة للنزعة الدولية الليبرالية المرتبكة والمتداعية؟ إثر انهيار روسيا السوفييتية قال نيكسون قولته الشهيرة: «لقد تخلّصنا من الشيوعية ولم يبق لنا عدو سوى الإسلام». ومثلما وعى الغرب جيّدا دروس التاريخ وبحث عن تدمير الإسلام والمسلمين، وذلك بضرب اللغة، واغتيال الحضارة وإزالة الفعل العربي في التاريخ، تعمل إسرائيل بدورها على نشر الصهيونية كحركة عدوانية تحكمها أهداف توسّعية لا تنتهي وأحلام توراتية محرّفة في السيادة والغلبة. وتاريخها كما حاضرها يجهران بذلك بشكل واضح تمام الوضوح. إسرائيل لا تتردد في استغلال أي فرصة لتوسيع حدودها حتى تحول دون إمكانية قيام دولة فلسطينية، ورغم أن هذه ليست هي سياسة الولايات المتحدة المشار إليها في العلن، بالنظر إلى مواقف معينة من توسيع الاستيطان، إلا أن ذلك التوسع مستمر أسبوعا بعد آخر، ولا يوجد في واشنطن من يجرؤ على عمل شيء لوقفه، تماما كعدم جرأة بايدن على إيقاف حرب نتنياهو وحكومته المتطرفة.
ما زالوا يدينون أحداث 7 أكتوبر، وكأن المأساة الفلسطينية بدأت يومها، متناسين عقودا من الاحتلال والإجرام والانتهاكات، ومتغافلين عن أن الأسباب تؤدّي إلى النتائج، والاحتلال يؤدّي إلى المقاومة وهذا أمر طبيعي. المقاومة ستستمرّ باعتبارها النتيجة الحتمية للاحتلال، والمحتلّ لا ينسحب تاريخيا إلّا حينما يتكبّد خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة تُجبره على الانسحاب. إذا كانت إسرائيل تنشد الأمن والاستقرار حقا، فإن هذا الهدف لن يتحقق إلا بالتوصل إلى صيغة السلام باتفاق الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وهذا السلام المنشود لن يجد سبيله إلى التفعيل إلا عندما تدرك إسرائيل أن عليها التخلي عن الاحتكام إلى العنف وارهاب السلاح، وتعيد تأهيل نفسها سياسيا، مع أنها اليوم سقطت أخلاقيا وإنسانيا في نظر أحرار العالم وشعوبه، وعزلت نفسها بعد حربها الهمجية ضد المدنيين. إسرائيل ذاهبة نحو مزيد تعميق الأزمة، وهذا طبيعي بالنسبة لأي كيان احتلال مصيره الزوال. واليمين المتطرف والصهيونية الدينية التي جمعها نتنياهو في حكومته أظهرت للعالم المدى الذي وصله تطرف المجتمع الإسرائيلي في الهوس الديني والعداء للفلسطينيين وللعرب عموما. على العالم أن يدرك أنّ تحقيق السلام لن يتم إلا بتجسيد طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة.
كاتب تونسي