قيل الكثير عن مجلس التعاون لدول الخليج العربية منذ تأسيسه في مثل هذا الشهر قبل أربعين عاما، وطرحت التوقعات العديدة، المتفائلة والمتشائمة حول مستقبله منذ ذلك الوقت، وتحدث معارضوه عن «حتمية» سقوطه، بينما عمل مؤسسوه على ترسيخ دعائمه طوال العقود الأربعة الماضية.
عندما أقر القادة المؤسسون الورقة الكويتية التي طرحت آنذاك لمشروع هذا التحالف الخليجي كانوا يومها مدفوعين بتطورات إقليمية ومحلية عاصفة أهمها ثلاثة: قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بعد ثورة استمرت أكثر من عام وأدّت إلى إسقاط نظام الشاه، اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية 1980 التي كانت تهديدا لأمن المنطقة واستقرارها بما فيها الدول التي ارتبطت لاحقا بمجلس التعاون الخليجي، والاضطرابات الداخلية في بعض دول المجلس التي كانت في بعض حالاتها الأوسع والأعنف منذ عقود. في ظل هذه التطورات كان حكام الدول الست: المملكة العربية السعودية، الكويت، قطر، سلطنة عمان، دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، يبحثون عن صيغ فاعلة لمواجهة التطورات المذكورة. وفي 25 أيار- مايو 1981 أقروا مشروع المجلس في أول قمّة لهم عقدت في أبوظبي. ومنذ ذلك الوقت دخلت منطقة الخليج في استقطاب ثلاثي بين إيران والعراق ومجلس التعاون الخليجي. هذه المعادلة تواصلت حتى اليوم، مع تفاوت في مدى الالتزام بمواقف مشتركة من قبل دول المجلس. ومن المؤكد أن التطورات الإقليمية والمحلية اللاحقة أوصلت المجلس إلى أوضاعه الحالية وعلاقاته الداخلية التي تختلف كثيرا عما ساد المجلس في سنواته الأولى.
في مطلع الثمانينيات كانت دول الخليج والعراق قلقة جدا مما حدث في إيران وما يجري داخل حدودها بالإضافة لسباق بين الاستقرار والاضطراب في منطقة الخليج التي كانت محط أنظار العالم منذ عقود سابقة. أوّلاكان سقوط الشاه مروّعا خصوصا بلحاظ ما كان يتوفر له من دعم غربي عام وأمريكي خاص، وما يمتلكه من قوات مسلحة جعلت جيشه الخامس في العالم من حيث القوة والإمكانات، وما لديه من أجهزة استخبارات تتصدى للمعارضين وفي مقدمتها «السافاك». ثانيا: تصاعد ظاهرة المعارضة في عدد من هذه الدول خصوصا السعودية والبحرين، التي شجعها ما حدث في إيران بشكل خاص. فكانت هناك تظاهرات واحتجاجات في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية وفي البحرين والكويت. وسبق ذلك ما يسمى «حادثة الحرم» التي تزعمها الزعيم السلفي، جهيمان العتيبي، في نوفمبر 1979، وهي الحادثة التي كانت الأكثر تهديدا للأمن السعودي منذ قيامه قبل ذلك بأقل من خمسين عاما. ثالثا: كانت دول الخليج تشعر، بشكل خاص، من غياب القيادة العربية منذ توقيع اتفاقات «كامب ديفيد» من قبل الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، الذي كان قد زار القدس في خريف 1978، ووقع اتفاقات كامب ديفيد بعد ذلك بعام. وفي غياب القيادة الفاعلة للعالم العربي حدث فراغ كانت مصر تملأه حتى رحيل جمال عبد الناصر في العام 1970.
مجلس التعاون الخليجي، برغم ما اعترض مسيرته من تحديات كبرى بقي متماساكا إلى حد كبير وما يزال يتحرك كتحالف إقليمي متماسك
وشهدت حقبة السبعينيات مرحلة بناء ذاتي من قبل دول الخليج، خصوصا السعودية. فقد ساعدتها الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات، على إعادة تموضعها العربي والإسلامي، مدعومة بالمال النفطي الهائل الذي توفر بعد حرب أكتوبر بين العرب و «إسرائيل» في العام 1973. وبتدفق المال النفطي للدول الخليجية أصبح لديها حافز لتطوير نفسها وبناها التحتية. وبحلول الثمانينيات أصبح لحكومات الخليج موقع سياسي واقتصادي متميز على عكس ما كانت تمارسه قبل ذلك. فمنذ الانسحاب البريطاني في صيف 1971 من كافة المناطق الواقعة شرقي السويس ساد العديد من حكومات الخليج شعور بالقلق والخشية من فقدان أمنها السياسي، فكان ذلك من بين أسباب اندفاعها للانضمام لتحالف اقليمي بين حكومات متشابهة إلى حد كبير.
تباينت نظرات القوى السياسية الأخرى لقيام مجلس التعاون الخليجي، وفقا لمصالح كل منها. أولا كانت هناك القوى الغربية، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي تبحث عن تحالف إقليمي يحمي مصالحها من جهة ويكون قادرا على التصدي للنفوذ الإيراني في مرحلة ما بعد الثورة من جهة أخرى. فقد انزعجت كثيرا من سقوط نظام الشاه الذي كان القاعدة المتقدمة للمصالح الغربية، ودفعت باتجاه تأسيس المجلس لاعتبارات استراتيجية وسياسية. ولم يكن ذلك سرا، بل قرأه الكثيرون ضمن هذا المنظور، وساهمت السياسات الأمريكية آنذاك في دعم هذه القراءة. ثانيا: اما إيران فاعتبرت المجلس واجهة للنفوذ الأمريكي في المنطقة وقاعدة متقدمة للتصدي لها نيابة عن أمريكا، وعبّر وزير خارجيتها آنذاك، محمد علي رجائي عن امتعاضه من قيام المجلس متزامنا مع تصاعد الحرب العراقية – الإيرانية. فكان الإعلام الإيراني يتصدى لمجلس التعاون ويؤكد انتماءه للمشروع الغربي، ويعتبره من بين «قوى الثورة المضادة». كما اعتبرته طهران واجهة أخرى للمساعي الغربية ضد الجمهورية الإسلامية، ولم تُخف عداءها له من جهة، واعتباره امتدادا للمشروع الأمريكي في المنطقة من جهة ثانية. ثالثا: نظام العراق برئاسة صدام حسين، كان في البداية مترددا في الموقف بسبب النزاع الأيديولوجي التاريخي مع حكوماته. ولكن تورطه في الحرب مع إيران دفعه نحو سياسة براغماتية تجاه المجلس، فاعتبره سندا له في المشروع الحربي مع إيران. رابعا: نظرت قوى المعارضة في السعودية والبحرين بشكل خاص للمجلس أنه مشروع «أمني» يهدف للالتفاف على المعارضة الخليجية، فلم ترحّب بقيام المجلس بل كانت أدبياتها تطالب بتعاون الشعوب الخليجية وتوحدها، وتنتقد مشروع مجلس التعاون بأنه مشروع أمني يهدف لحفظ أمن الانظمة الحاكمة وليس الشعوب. كانت مجموعات المعارضة خصوصا المتناغمة مع ثورة إيران تعتبر المجلس «مشروعا أمريكيا» يهدف لمحاصرة الثورة ويسعى لمنع حدوث تغير ديمقراطي في منطقة الخليج. يومها كتبت المقالات وألّفت الكتب لتأليب الرأي العام ضد المجلس.
كيف تبدو صورة مجلس التعاون الخليجي بعد أربعة عقود؟ لا يبدو أن المشاهد التي ظهرت في بداياته قد تغيرت جوهريا. فما تزال الأطراف الأربعة المذكورة متخندقة في المواقف نفسها. مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن مجلس التعاون الخليجي، برغم ما اعترض مسيرته من تحديات كبرى بقي متماسكا إلى حد كبير وما يزال يتحرك كتحالف إقليمي متماسك. من هذه التحديات عدم قدرته على إقرار اتفاقية عسكرية مشتركة، او عملة موحدة، او سياسة خارجية ثابتة. ومنذ البداية كان هناك خلاف على العلاقات مع إيران خصوصا بين سلطنة عمان والسعودية. وما يزال هذا التباين قائما حتى الآن، بل توسع أكثر. فهناك تقارب في السياسات الخارجية بين عمان وقطر والكويت من جهة، وبين السعودية والإمارات والبحرين من جهة اخرى. وأصبح هذا التباين اوضح في حرب اليمن حيث اتخذت الدول الثلاث الاخيرة سياسة مختلفة دفعتها للمشاركة في الحرب، بينما ترددت الدول الثلاث الاولى. ومن هذه التحديات ما واجهه المجلس في اغسطس 1990 عندما اجتاحت القوات العراقية في عهد صدام حسين الاراضي الكويتية. فبرغم امتلاك مجلس التعاون قوة عسكرية مشتركة (قوات درع الجزيرة) تتمركز في قاعدة حفر الباطن السعودية، إلا أنها لم تستطع وقف الاجتياح العراقي او التصدي له، بل اعتمدت دول المجلس على تدخل القوات الاجنبية لانهاء الاجتياح. وهناك اختلافات حول قضايا عديدة منها العلاقات مع تركيا وإيران في الوقت الحاضر. أما العلاقات مع «إسرائيل» فقد أوضحت التباين الواضح في السياسة الخارجية لمجلس التعاون، خصوصا بعد ان قام حكام الإمارات والبحرين العام الماضي بالتطبيع مع إسرائيل».
كاتب بحريني