مجموعة السورية ندى منزلجي «بقعٌ داكنةٌ على ظاهر الكفّ»: تملأ الفراغ بجمل شعرية مدهشة لا مرئيّة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
1

الشعراء المُدهِشون حقاً، لا يكتفون بإدهاشنا البسيط، وإلا اعتبرهم لا وعيُنا المركّب غير ذلك؛ لذا هم يضعون أمامنا مرايا تفتحُ عيونَنا كما هي عيونُهم فيها، حين نكونهم بتأثير فعل تداخل وتفاعل قصائدهم فينا، ويغمزون لنا أو يكتفون برمشة جفن أو القيام بنظرة مواربة لتنبيهنا إلى التقاط ما يتحرك حولنا ويثير إحساسنا به، وعيش وجوده الذي يتداخل بوجودنا. ولا فرق هنا إن كان كائناً حياً أو ما نظنّه جماداً، فسرعان ما ينبض الجمادُ بأرواحنا التي تتحرك بتوقنا وآلامنا وذكرياتنا وآمالنا وما ينتابنا، لكتابة أنفسنا، مثلما تفعل الشاعرة ندى منزلجي في مجموعتها الشعرية الجديدة «بقع داكنةٌ على ظاهر الكفّ»، بكتابة نفسها أو قصيدتها التي تكتبُها لنكتبَها. ليس في تفاصيل الحياة اليومية المشتركة الظاهرة للعين فحسب، وإنما في التفاصيل الخفية التي تلتقطها عينُها لتعقد صلاتٍ وروابط وصداقاتٍ غير مرئية تتراكب فيها صورة الحالة الوجودية التي هي فيها ونكتشفها في لا وعي قراءتنا، أو ربما فيما يأتي بما يتشابه معها في الحلم، غير ناسيةٍ وإن بطريقتها المواربة إحساسها بآلام وتَوْق الآخر:
«مَنْ يُلوّحُ للراحلينَ في قَوافلَ من نورٍ وهمْ يعبرونَ
السماءَ بينَ العوالمِ؟
مَنْ يتأملُ بُقعَ الضَوءِ كقُبّعاتٍ أنيقةٍ فوقَ شَعْرِ الأشجارِ؟
مَنْ سَيرى الأجملَ
ويُعجَبُ بالأقلِّ حَظاً
ويعشقُ الأقلّ حُسناً على الإطلاق؟
أيتُها الزهرةُ التي شقّتْ إزارَها
أديري وجهَكِ البهيّ إليهِ
ذاكَ الشاحب الخارج للتو من علبةِ كونسروة
لا أحدَ مثلُهُ مُتلهّفٌ
ليستحِمّ بشمسِ أصفَرِكِ….

«بقع داكنةٌ على ظاهر الكفّ»، وعلى طريقة خلقها الروابط غير المرئيّة، إن شاءت ذاكرتنا استدعاء تداخلٍ، لا شرط أن يكون ظاهراً فيها، بأطلال خولة طرفة ابن العبد ببرقةِ ثهمد، التي «تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»، لتعكس روح شاعرها المعلّقة على أستار الكعبة في معالجة الوجود والعدم؛ هي مجموعة شعرية، مرهَفة الحساسية في معالجة مسائل الإنسان الوجودية من خلال التداخل والتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية، الملتقطة طبعاً بنور عين ذكية تحسّ قبل أن تعرف بما يمكن خلقه من صلات بين اليومي المتناهي والوجودي اللامتناهي. وينقل هذه المجموعة إلى التفرّد أسلوب منزلجي في تجنّب التشبيه إن لم نقل إعدامه، بارتقاءٍ شفّاف إلى فلسفة وحدة الوجود، والتعبير عن الإنسان من خلالها كذرّة من ذرّات الكون.
إعدام التشبيه الانفصالي، المبلور في كلمة «مثل» و«كاف التشبيه»، الذي وفرته مقاصل العلم لشعراء ما بعد الحداثة، وكتبوه بتفرد أساليبهم، من خلال الكتابة الآلية السوريالية، المقاربة لما يحدث في الأحلام، تضيف إليه منزلجي طريقتها فيما تسميه مدركةً في عنوان واحدة من قصائدها، «صلات غير مرئية»، وتبلوره في معظم قصائد مجموعتها، ويلمسه القارئ أكثر في قصيدة «أمسية في دروب الله»، التي تعالج فيها قضية الألوهة، تداخل الكائنات، رابطة الأمومة، الحب والحرب، بأسلوب يتداخل وأساليب شعراء الكوانتوم، في التعبير عن التشابك غير المرئي المذهل للوجود: «رأيتُ الأمسيةَ تنْضو عنها ملابِسَها وتندَس في ماءِ النهرِ/ أكملتُ طريقي/ كنتُ طيفَ سمكةٍ/ عشتُ يوماً/ متُّ يوماً/ ولا أدري في أيّ الطورَيْن أنا/ أستدلُّ على بيتي مِنْ رائحتِه/ كَتِفي مالحةٌ/ فأنا مِنْ نسْلِ البحرِ/ قدماي تُرابيّتانِ/ كأيّ شجرةٍ ضالّةٍ./ … كنتُ أعودُ طفلةً/ أمّي تنظرُني في البيتِ/ وستقولُ لي: تأخرتِ! / أودعُ رأسي حضنَها/ ولا أقولُ شيئاً/ ستفهمُ/ وستؤكّدُ لي بصوتِ الأمّهاتِ حينَ يكذِبنَ/ الحَربُ غرِقتْ في الطريقِ إلينا/ الحَربُ لنْ تأتي».
في صيغ الطبخ اليومي الشعري، بالانزياحات المجازية المدهشة في المعاني، ونقل تركيب الجملة الشعرية من التداخل والتفاعل بذاتها، إلى اختزالات الجمل وخلق فراغات يكتشف لا وعي القارئ أنها مليئة بجمل غير مرئية، فيما يأتي بعدها من جمل شعريةٍ؛ وفي طريقة أسلوبها التي «تحمّص فيها الرغبات، تنتشي برائحة احتراقها، وتعيد تصنيف الأوجاع فيها، وفرد حصيلة الأمراض، تسخينها حتى الغليان، تغيير المقادير، إضافةِ القليل من حرقة القلب، وقطفةٍ من حنين، وخفقِ وجع الرأس، وتقليب مجموعتها الجديدة، حتى السعادة الأقرب إلى اللؤم، إلى الاستعصاء التام؛ تركّب منزلجي قصيدتها المتداخلة المتفاعلة في النهاية مع ذائقة وروح قارئها. وتركّب بنية مجموعتها، مع القليل من تعب وعجز اليدين عن حمل ما لا يحتمل، بطريقةِ خلق الروابط غير المرئية التي تركّب فيها قصيدتَها، في أربعة فصول مرقّمةٍ بالأحرف اللاتينية: «نومٌ مُضطرِبٌ داخلَ قفَصٍ مفتوحٍ، إلى الأثير الذي أعبره، أحسبُ قَلبي قطّاً كُلّما أضعتُه يجدُ طريقَهُ إلى البيتِ، وإقامةٌ طويلةٌ على الشّرفة». وتُضمّن الفصول الثلاثة الأولى قصائد نثرٍ متوسطة الطول في المجمل، بعدد 36 قصيدة، متوسطة الطول، وقصيرة وطويلة، بعناوين قصيرة تتقشف كما خُبزة صوفيّ إلى كلمة أو اثنتين. وتعالج منزلجي في هذه الفصول مسائل عيش الوحدة «العظيمة كآلهة» لا تأبه بأبنائها المتروكين لأقدارهم؛ والألم، السأم، الموت الذي يمتد كما فيلم طويل ميت، والوحشة، والفراغ الذي يأخذ أبعادا متراكبةً تمتدّ في الواقع المعاش والمتخيَّل إلى فلسفة القصيدة وطريقة شغلها: «فراغٌ يتّسعُ لابتسامةٍ/ فراغٌ جميلٌ يحتلُّ قلاعَ الكآباتِ/ كآبات جنودُها منهكونَ/ ودعاتُها يتمنونَ خيانتَها/ فراغٌ ليدخلَ فيه دفءُ الأصدقاءِ/ متروكٌ لدهشةِ الشِّعرِ/ لتنمو فيهِ عشبةٌ برائحةٍ مُسكِرةٍ/ ليست النَعناعَ الذي أشبعناهُ حنيناً/ ولا حبَقَ أمسياتِ البيوتِ الرزينِ/ عشبةٌ تعبثُ بها أشواقٌ إلى ما لا يُلمسُ/ وإلا فسَدَ».
وتعالج الحبّ، وجروحاته المتداخلة ببرود العلاقات والخيانات والخوفَ وتراكب الأزمنة، الحب الذي: «ربمّا يصِلُ قَبلي/ وأتأخّرُ أنا/ كما يحصَلُ مَعي دائماً في المواعيدِ المهمّةِ/ أبحثُ عن مِفتاحِ البيتِ بلا جَدوى/ ولا أجدُ أمامي سِوى القُفلِ/ في لمسةِ الترتيبِ الأخيرةِ/ تقعُ الكأسُ/ يتناثرُ الزجاجُ على أرضِ المَطبخِ/ وإذْ أحاوِلُ جمعَهُ، يُدمي يدي/ هكذا الحبُّ/ يجرَحُني قبلَ أن نلتقي».
كما تعالجُ مسائل المكان المتداخل المتفاعل مع حياة بشره، وبالأخص غربتهم عن مكانهم وحنينهم فيه، وطباعهم التي جاءوا بها من أمكنتهم ليحفروها في جدرانه كتعبير عن مقاوماتهم حالة محو وجودهم، من خلال حيّي بريكستون وميدافيل في لندن، بقصيدتين جميلتين هما: «بلاد الغرباء»، و«تقلّب بين الملاءات»، تتداخلان بما تعالجانه من حالات النساء المحبّات والمهجورات حيث: «في الليلِ/ نساءٌ وحيداتٌ/ يحلِّقنَ بأجنِحةٍ/ يَحشرْنَها ما إنْ يأتي الصباحُ في حقائبِ أطفالِ الجيرانِ/ الذين ما عادوا يذهبونَ إلى المدارسِ/ أجنِحة بالية غالبا لكثرَةِ ما تقلّبتْ في دوّاماتِ الغسّالاتِ/ وانغرَستْ فيها مَخالبُ الشوقِ إلى غائبينَ/…./ في الليلِ/ تطيرُ بهنَّ أفكارٌ ماكِرة أودعْنَها الوسائدَ/ وتظاهرْنَ بالنومِ كخَالاتٍ وَرِعاتٍ».
وتصل في معالجتها مسائل المرأة إلى معالجة دونيتها التي تُذكّر بنقص العقل والدين في قصيدةٍ تتداخل وأسلوب السخرية العميقة في قصيدة النثر: «خَلقتَني على عجَلٍ/ قبلَ أنْ تَضيعَ مِنكَ الفِكرةُ/ كانَ الطينُ قليلاً/ وهناكَ وَفرةٌ من ماءٍ/ وحينَ شوَيتني في الفُرنِ/ كنتُ أسيحُ/ كانَ رأسي يَصغرُ وتَسيلُ ساقاي/ ثم أذوبُ… / ولا يبقى منّي إلّا جمرةٌ/ ولأنّك لمْ ترغبْ في أنْ تُعيدَ الكرّةَ من الصّفرِ/ دسَستَ تلكَ الجَمرةَ في صَدري/ وكُنتَ قد أتمَمتَ خلقَ الكونِ/ وآن لكَ أنْ تستريحَ/ لمْ أكنْ جافةً تماماً حينَ أخرجتَني مِنَ الفُرنِ/ ومع أنّكَ أدركتَ هَشاشَتي/ ترَكتَني».
في فصل بنيتها الرابع المكوَّن من قصيدة واحدةٍ طويلة، تعالج منزلجي بواقعيةٍ تقترب من التسجيل وتتداخل بأسلوبها في خلق الصلات غير المرئية، جيل الربع الأخير من القرن العشرين، وأوائل القرن الواحد والعشرين، في سوريا كما يلمس من عرفوا هذا الجيل، وعاشوا تأثّراته الثقافية، مِن لا منتمي كولن ولسن وإله متاهته، إلى عبث صموئيل بيكيت في انتظار غودو، إلى ذيل خنزير كائن مائة عام من عزلة غابرييل غارسيا ماركيز، إلى الواقعية السوفييتية التي ضربت التلاميذ بمسطرة الستالينية على قفا أكفّهم لتعلّمهم كيف يسقون الفولاذ. بالدموع التي سالت فيما بعد هذا التعليم، إلى شتائم مظفر النواب، إلى أحلام هذا الجيل، وإحباطاته، مع هُراءاته وهروباته الاستيهامية اليسارية الطفولية، بروح التقاطٍ شعريةٍ شفافةٍ كشافةٍ، وإن تجنّبت الغوص أعمق في «قلب ظلمة» ما حفرت الديكتاتورية من أنفاق في قلب الإنسان، لتصدح «القيامة الآن» على موسيقى «فاغنر»:
«مثلَ زنابقِ الماءِ/ سالتْ دُموعُنا في الصلاةِ/ ومِن البكيني إلى الحجابِ/ ومِن عبَثٍ يساريّ الهوى إلى خَديعةِ الكَهنة والمَشايخِ/ والقُبيسيّاتِ/ قَطعَ بعضُنا الرّحلة/ ونادراً ما حصلَ العكسُ…/ داخِلَ فُقاعاتِنا قرأنا كتبَ فرج فودة المُهرّبة/ وأساطيرَ عشتارَ وحبيبِها تمّوز وغريمِها بَعْل/ انشَغلنا بتحليلِ تراجُعِ هَيمَنة الآلهة الأمّ/ كي لا نتساءلَ بالاستماعِ إلى مارسيل خليفة أدّينا نصيبَنا من النضالِ/ علنيّاً/ كاملاً/ كانَ ذلكَ قبلَ أنْ نكتشِفَ أنَّ عصافيرَهُ حقّاً بليدةٌ/ وأنّ جُرحَنا البليغَ غائبٌ عمّا يُزوَّرُ من معارضِ الصوِر./ انتشينا تمرُّداً ونحنُ نردّدُ بأصواتٍ تشبِهُ الهَمسَ/: «أولاد الـ …»
ختاماً، بقع ندى منزلجي المشوية بجمر الزمن علاماتٌ على ظاهر كفّ الشعر وفي داخل راحة يده كذلك.
ندى منزلجي:
«بقع داكنة على ظاهر الكف»
دار النهضة العربية،
بيروت 2022
156 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مجتهد:

    تحية لندى وأختيها رولا وهالة وأخيها الوحيد محمد. أعرف هذه العائلة الكريمة كانوا مشهورين بالجمال ولكنني أستغرب أن ندى كانت شاعرة فلم تبوح بهذا أبداً ربما إلى أن حصلت على تشجيع ما بعد زواجها واستقرارها في بريطانيا.

إشترك في قائمتنا البريدية