داخل عربة المترو، بين السحابة التي قطفتُها من سماء سان غراسيان، وطبعةِ قدم الغجرية التي أنا ذاهب لسقايتها أمام كنيسة نوتردام. نظرتِ المرأةُ التي جلستْ أمامي على المقعد، بعد رفّة جناحٍ، إلى الكتاب الذي بين يديّ، وسمعتُ عطرَ ابتسامتها؛ قالت: أنت تقرأ كتابي. قلتُ: لكنّك في هذه اللحظة لستِ زهرة يسري؛ ماذا تريدين أن تكوني؟ وضحكتْ، قالت: ربما نجمة، غيمة، أو أي اسم ينفجر لوناً، في القصيدة التي تركها المترو في جاذبية المحطة السابقة، ولكن، هل كتبتَ قصيدةً وأنت سمكة في فم طائرٍ غطّاس، تصرخ، ولا يسمعك غير الدلافين التي تتقافز بحب جارف في اتجاهك؟
تلك هي بعض أجواء مجموعة الشاعرة المصرية زهرة يسري “قاموس شخصي”، أو بعضُ أجواء ما يمكن أن ينتابَ قارئَها، وليس شرطاً في عربة مترو باريس، حيث لا مكان لأحلام اليقظة، فقد يكون ذلك وهو يقلّبُ بستّ حواسٍ، صفحاتِ “ناشيونال جيوغرافيك”، أو ينظر بثمانيةِ عشر عينِ ثمانية رواد فضاء، وبصوت ويل سميث، إلى الـ “ون سترينغ روك” التي غادرتْه إلى ذكرياتها في فم الديناصورات، أو ربما يكون ذلك، أمام الشخص الذي يرتدي عينيه، وهو ليس هو بالتأكيد أو هو كما يرجّح.
“قاموس شخصي”، مجموعةٌ شعرية، تعكس شاعرتَها، من وجهٍ أول ظاهرٍ في موشور عبثها: كذاتٍ بشريةٍ وُلدتْ لتأخذ اسماً لم تختره، هو اسم جدّتها، من الآخرين الذين ربّما أرادو تخليد الجدّة في الحفيدة أو استنزال الرحمة عليها فحسب. وتعكسُ في أوجُه موشور عبثها الأخرى: الذاتَ الشاعرة، التي لا تتميّز عادةً بقرون استشعارِ ما لا يلاحِظ ويكتشف الآخرون ربما، بل أيضاً وهو ما يميّز قصائد هذه المجموعة، بالتشظّي المماثل أو المخالف لتشظّي وتوحّد ذوات الكائنات في أشكالها المتحوّلة إلى بعضها، بعد الانفجار الكوني الكبير المسمّى “بِغ بانغ”، وسيْر التطور إلى ما نعرف وما لا نعرف، حيث، تنعكس “زهرة يسري”، في القصيدة التي تحمل هذا الاسم في قولها:
“فلأسمِّ الأشياء بغير أسمائها
مثلاً
الكرسي
ماذا سأسمّيه لو لم يكن له اسم؟
ماذا كنت سأسمّيني؟
في الغالب كنت سأختار اسماً مختلفاً
لأني كنتُ بدل فاقد لجدّتي واسمي كان رحمةً على روحها
كنت سأغيّر اسمي كل سنة
اسماً غريباً ليس له معنى
اسماً خالياً من حروف العلة
من الحروف الصحيحة
اسماً
كنغمةٍ رخيمةٍ تمزّق الحجاب الحاجز
اسماً
كانفجار صوتي”.
في بنيتها الظاهرة، المتشكّلة ضمن كتاب صغير الحجم يصلح للجيب وقراءات المترو والحدائق، تبرز هذه المجموعة، بغلافٍ أنيق، يُظهر كائناً رمزياً بخمس زهراتٍ مظلّلة الحوض، تعكس تعدد الذوات داخل وخارج إطار لوحة كتابةٍ هيروغليفية، وتمرّ داخل هذه البنية اثنان وستون قصيدة نثر، بعناوين تقتصر في غالب القصائد على كلمة واحدة موحية، وبأطوال تتراوح بين السطر كما في: “وضعتُ نفسي في كوبٍ لأملأ نصفه الفارغ”؛ والعشر صفحات، كما في قصيدة حائط التي تتجلّى فيها بصورةٍ أشمل، اتجاهاتُ القصائد الفكرية وفلسفة الشاعرة.
داخل بنيتها العميقة، على صعيد المعنى الذي لا معنى له وفق مفهوم “العبث” الذي ينسحب على كون القصائد، تفتح زهرة يسري ستار شاشتها على فيلمٍ أو مسرحٍ للعبث، مميّزٍ بحمل فلسفة العبث الأولى التي نتجت بعد الحرب العالمية الثانية، بأساسيات اللامعقول واللامعنى واللاجدوى والخوف والسخرية، ووهم اللغة. حيث: “اللغة تتكلمنا، نحن العبيد الكلاسيكيون للساننا”، مع التفرّد في تجسيد ذلك بمستجدّات منتجات ما وصل إليه القرن الواحد والعشرون، من اكتشافاتٍ نظرية لمسائل الكون ما بعد نظريات التطوّر والنسبية، واكتشافات السير والبحث وفق مرشدات “غوغل إيرث”، مع اكتشافات خلق العوالم الافتراضية، وما تثيره من قدرات ومتعة. والأهم، الذي ينعكس أكثر في قصائد زهرة يسري، هو اكتشافات التحقّق من وحدة الكون، وأساسيات تكوّن عناصره التي تتفرع إلى الأرض والبحار والغابات وكائناتها التي تتطوّر وتتحوّل بتداخل عناصرها إلى ما يشكل إثارة جمال وتنوّع الأرض، ولكن أيضاً، إثارة فزع كوننا مجرد مفترسين وفرائس.
عَراءً من رداء التعاطف، الذي يعني التعاطف بما يثيره الفن من منعكسات، وفقاً لأسلوب العبث الذي تكتب به زهرة يسري؛ يتجلّى التداخل الكوني، والتفاعل، والتحول، في القصائد بمفردات ومعاني لغتها، كأمثلة تقصُر عن كامل الغنى، بـ:
ـــ التداخل والتناغم مع الطبيعة: في الوحدة، في الحب، في جمع الغيوم والطيور التي تحلّق في سماء الغرفة، حيث: “ملأتُ جيوبي بالغيوم/ لأحلق في سماء الغرفة/ تاركةً يدي تحاول حفظ ملامح العاشق”.
ـــ تداخل الحواس مع كائنات الطبيعة، وفي انثيال الجمال، حيث: “فراشة/ تغمرني/ أتابعها حتى تختفي/ ثم فراشة أخرى/ حقل من الفراشات/ ورد بأجنحة/ يتعطر بالألوان/ ويتحد بالريح/ عشت حياة ملايين الفراشات/ لكني لم أحترق بعد”.
ـــ التداخل مع الجاذبية، في الأماكن الأفقية الخالية من الحركة، حيث: “مدينة بلاجبل/ تضغط قفصك الصدري/ تجعلك تمشين أفقياً على خط مستقيم/ تهادنين الجاذبية/ كترسة بحر لا تستطيع رفع رأسها/ محاصرة بالجوارح”.
ـــ التداخل مع الزمن، في حركة الحياة واستنقاع الواقع، حيث: “أصابتني عدوى السرعة/ في النهاية يتعارض الواقع مع المنطق/ الربت على الوقت في دفتر الحضور/ الجلوس في عربة التسوق/ لصق كود المشتريات على يدي/ أكثر رومانسية/ من لقاء قصير في سوق الحب/ أو من وردة تحتضر في فازة/ أتردد من التخلص منها/ ومنك/ لأنكما واقعيان أكثر من اللازم/ بينما الحياة شيء يفوق الخيال”.
ـــ التداخل مع التكنولوجيا، في أقصى ما وصلت إليه من تقريب البشر لبعضهم، كما يفعل غوغل، وفي أدنى ما لم تستطع الوصول إليه من معرفة عواطف البشر وسبر ذاكراتهم.
ـــ تداخل البقاء، المفزع من كوننا مفترسين وفرائس، في أحلامنا وكوابيسنا الحافلة بالصيد والقنص والهروب وتبادل الأنياب واللحم في تداخلاتنا، وفي مخاوفنا المحفورة في ذاكرة خلايانا، وخوفنا المباشر الدافع لنا للنجاة، وللقتل.
ـــ التداخلات والتحولات، في خطاب الذات للذات، بكونها سلسلة في حلقة التحولات ملقاة على حائط، حيث: “الحائط لا يغيّر لونه. الحائط صلب يا زهرة أضع رأسي بالقرب من رأسك، أربعة عيون يحدقون في الفراغ، عيني لا تلتقي بعينك، أشعر بإصبعك تجزين عليه، أحملك بين أسناني، أخبئك في الأحراش البعيدة، أعلمك الطيران فتمنحيني لذة السقوط، أدربك على الافتراس فتعلميني لوعة الحداد، كنت يا زهرة شجرة روت جذورها أرواح العائلة، نمرة التهم الضباع رضيعها، سحلية عطشى في صحراء لا أعرفها”.
داخل بنيتها العميقة على صعيد الفنّ الشعري، تسلك زهرة يسري نهج قصيدة نثر ما بعد الحداثة، مبدعةً قصيدتها باستخدام أسلوب السخرية العميقة مما تركّب في الواقع من تشابهات، واستخدام أسلوب تكسير مرايا الواقع تكعيبياً بشذرات القصة القصيرة، واستخدام الدهشة في صور إعادة تركيب الواقع بذات مرايا التكعيبية المتشظية بعبث التركيب. مع إضافة لمستها الخاصة لألوان تداخل الحواس في القصيدة، ولطلاقة أحصنة الكتابة الآلية من أسر لجام العقل، ولفساحة شاشات أحلامها وكوابيسها السوريالية، في خلقها لانصهاراتها، مع حركة الطبيعة والكون.
وداخل هذه البنية العميقة المتفردة بالتفاعل والتداخل والتحوّل، من دون فواصل بين جمل قصائدها، تدفع زهرة يسري تفرّدها للتألّق في تخطّي التحول لذواتها، كي يشمل التحوّل قصيدتها نفسها، تماثلاً مع ما يجري في الطبيعة من خلق أشكال جديدة متناغمة، برميات نردها، وذلك بإعادة كتابة قصيدةٍ وفق رميةِ نردٍ عبثية أخرى. وثمة عنوان “بداية جديدة”، وتضمين بعض القصائد سطوراً من قصائد أخرى، مشركةً القارئ في سعادتها بترك ملاكها المرافق في محطّة لم يعد القطار يتوقف فيها، بعد أن “حلّت كاميرات المراقبة محل الملائكة”.
زهرة يسري: “قاموس شخصي”
دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر 2018
119 صفحة.