مجموعة الشاعر السوري آزاد عنز «قبورٌ لا تنتهي»: حين يكون الموت سيفاً على مقاس رقاب الأكراد

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

لا يمتدّ حلم الإنسان الكرديّ كأحد أطول الأحلام التي عرفها التاريخ فحسب، ولكنْ يا للأسى، هو أيضاً يمتدّ كجسدٍ معلّقٍ وممزّق بمخالب خمس كمّاشات لا إنسانيةٍ ضخمةٍ واحدة منها تخرج منه هو ذاته. ويمتدّ جسد الحلم هذا ممزّقاً لينفتح على سبيل وحيد هو الموت، وفق مجموعة الشاعر السوري الكردي “قبور لا تنتهي – حكاية موت ناقصة”، ربّما ليقايض الموت بالحياة. وفي كل ذلك لا تتغيّر طيبة قلب الكرديّ الذي لا يتعب من حمل حلمه الثقيل الطويل، ولا يكفّ عن تصديق ما تنصبه الكمّاشات له من فخاخ.
“قبور لا تنتهي” مجموعة مميزة، تتناول موت الإنسان الكردي الذي أصبح الموت قدره الذي يولد معه كما يبدو، بقصيدةٍ واحدةٍ لا يمكن الفصل في أنها طويلةٌ رغم امتدادها على ستّ وخمسين صفحة. يتقسم النصّ إلى شواهد قبور تنفتح بذات اللازمة: “شاهدة قبر” لـ …، ما يمثّل جميع أشكال المدنيين والمقاتلين الكرد الذين تعرّضوا لمجازر كمّاشتين من الخمس، بدءاً من الطفل والطفلة والأم والأب والجدّ والحفيد والأقارب والجيران، مروراً بالمهن من مزارعين وفلاحين ورعيان وعمال وتجار، وأطباء وممرضين أغنياء وفقراء، إلى مهن شيوخ الجامع والسياسيين والزعماء والخونة إلى المثقفين والفنانين والراقصات، إلى المتشردين والمتسولين والمتسكعين، إلى والمحامين والقضاة والعاهرات، انتهاءاً بالمقاتلين والمقاتلات. أي بما يشمل كل ما يقع تحت تسمية كردي ويميّزه الموت بهذه التسمية لينصب شاهدة قبره:
“شاهدة قبرٍ لإسكافيٍّ
قُتل قبل أن يُنهي الحذاء
ما إن مات الإسكافيّ
بقي الكرديّ حافياً.
شاهدة قبرٍ لقابلةٍ
لم تُجهد نفسها أبداً بولادة الكرديّ
لأن الكرديّ يولد ميّتاً
ويتظاهر بالحياة”.
في “قبور لا تنتهي”، كبنية، يتناول عنز كمّاشتين من كمّاشات تمزيق جسد الحلم الكردي، هما: كمّاشة الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وكمّاشة الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، بالاسم وبدوافع ارتكاب المجازر المتمحورة على المصلحة والمغلفة بالدين.
في الكماشة الأولى، يقدّم عنز شواهد قبوره  بآيات سورة الأنفال في تقسيم الغنائم: “يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول…” كنايةً عن ثروات العراق التي تقود المسيطرين عليها إلى ارتكاب المجازر: “نزلت السورة بعد البسملة، وانتهت مختومةً بصدق الله بعد غزوة بدر الكبرى لتوزيع الغنائم؛ فتحايل الزعيم العراقي صدام حسين على قسمة الله وشرعه، وأوّلها على مقاسات بنادقه، ومقاسات أجساد أكراد العراق، كلّ جسد كرديّ له نصيب من رصاصة متديّنة، كلّ جسد كرديّ له شاهدة قبر ضائع؛ تنتظره على أرضٍ ضائعة؛ ليضيع الكرديّ بين شواهد قبوره الضائعة”.
وبعد هذا التقديم تتوالى ثلاثٌ وستّون شاهدةً يفصل بين كل عشرة أو أحد عشر أو اثني عشر منها، لكسر الرتابة في الشكل حيث لن تختلف طبيعة إيراد المعنى، جملةٌ ناعمةٌ لكنها قاتلةٌ في ذات الوقت، وتتكرّر ست مرات: “لم كل هذا أيها الرئيس؟/ قبور لا تنتهي”.
“شاهدة قبرٍ ليتيمٍ
قُتل أبوه برصاصة سابقة وحربٍ سابقة
لم تهدأ الرصاصة ولم تهدأ الحرب
ليقُتل اليتيم وأبوه بذات الرصاصة.
شاهدة قبرٍ لجدٍّ
كان يُلقّن الحكمة لحفيده
فاغتيلت الحكمة برصاصةٍ طاغيةٍ
وتبدّدت دون وصولها
ليبقى الحفيد تائهاً،
شاهدة قبرٍ لحفيدٍ
كان ينتظر وصول حكمة جدّه القتيل
فأُلحق بجدّه وبقيت الحكمة معلّقة
دون صواب يوصلها إلى يقينها
شاهدة قبرٍ لأبٍ
فقد ابنه بين قبرين ضائعين
عُثر على القبرين ولا يزال الابن ضائعاً
إلى يومنا هذا.
قبورٌ لا تنتهي”.
في الكماشة الثانية، يُدخل عنز ازدحام الجغرافيا بالقبور التي تضطر للهجرة بحثاً عن أرض من شرق كردستان إلى غربها، حيث استقبلهم الرئيس التركي بتلاوة سورة الفتح: “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا”، وشرَحها وأوّلها “على مقاسات سيوفه، ومقاسات رِقاب الأكراد، وبعد الانتهاء من التأويل، أذِنَ للقبور بالعبور، فكانت الأرض تنتظرهم”.
وبعد هذا التقديم الذي يشكل الفصل الثاني في القصيدة تتوالى تسع وثلاثون شاهدةَ قبرٍ ليصبح المجموع مائة وشاهدتين، يستقر تحت بعضها العديد من الجثث التي دفنت معاً، وكما فعل في أسلوب كسره للرتابة يَفصل عنز كل عشرة أو تسعة من شواهده بجملة: “لم كل هذا أيها الرئيس؟/ قبور لا تنتهي”، وجملة خاتمةٍ: “قبورنا التي لا تنتهي”.
في عرض شواهد قبوره يلجأ عنز إلى أسلوب قصيدة النثر القصيرة، لكنْ بلَظْم القصائد القصيرة في عقدٍ طويلٍ، مستخدماً لغةً يوشّيها الأسى، وتنبض بسخريةٍ مُرّة من رغبات الناس وأحلامهم واحتياجاتهم التي يقطعها الموت برصاصه وشظاياه التي تترصدهم وتفاجئهم أينما كانوا في مشيهم وركضهم ونومهم ولوذهم وهروبهم، مثل قَدَرٍ تلبّس الكرديّ ولم يعد من مهربٍ له منه.
وينقذ عنز أسلوب تكرار شواهد قبوره بفصل الشواهد ضمن مجموعات مع المحافظة على السياق من جهة، واللجوء من جهة أخرى إلى خلق علاقات الترابط بين شواهد القبور وفق تشابه حالاتها أو قراباتها، وتحويل الشواهد المترابطة إلى حكاياتٍ قصيرة مع المحافظة على طبيعتها كقصيدة نثر، مثل ترابط: شاهدة قبرٍ لنحاتٍ، لكاتبٍ، لصاحب مكتبة، لقارئٍ؛ أو شاهدة قبرٍ لشاعرٍ، لملحنٍ، لعازفٍ، لمغنٍّ، لراقصةٍ؛ أو شاهدة قبرٍ لبائع توابلٍ، لطباخٍ، لنادلٍ. كما ينقذ رتابة التكرار بتنويع صور الموت وفقاً لصور حيوات الناس ومآلاتها، وتلعب السخرية المرة والإدهاش دورهما كذلك في كسر الرتابة.
باقتصاره على عرض كمّاشتي الدكتاتوريين في العراق وتركيا، وذكره الديكتاتورين بالاسم، يخلق عنز إشكالات وتساؤلات في موازنات المواقف لدى قراء المجموعة، رغم مواقفه الوطنية الديمقراطية وكتاباته الساخرة من استغلال الدول المتدخلة في الشأن السوري، والأمريكيين بصورة خاصةٍ للحلم الكردي بالاستقلال والعدالة، بمساعدة نخب الأكراد، وفتح السبل أمامهم للمزيد من المجازر، حين يتجنّب ذكر الكمّاشات الثلاث الأخرى التي تمزّق جسد الحلم الكردي: نظام ولاية الفقيه الإيراني، ونظام الدكتاتور السوري حافظ الأسد وابنه بشار، اللذين لم تقلّ مجازرهما بحق الأكراد عن مجازر الآخرين، بإضافة حرمان مئات الآلاف منهم حق المواطنة والهوية السورية، وتحالف هذا النظام مع الأحزاب الفاشية الكردية، مثل حزب العمال الكردستاني (PKK)، والاتحاد الديمقراطي التابع له في سوريا، ككماشةٍ خامسة شاركت نظام بشار الأسد في وأد الثورة السورية التي كانت أملاً لجميع السوريين بكل مكوناتهم، وفي التنكيل حصاراً وتهجيراً بالديمقراطيين الكرد المتحالفين مع الثورة، واغتيالاً لرجالاتهم مثل مشعل التمو.
ولا تفصح المجموعة في الحقيقة عن هذا النقص الذي لا تُكمله كذلك لاحقة العنوان ــــ حكاية موت ناقصة، إن كان المقصود منها أن تؤشّر على هذا الغياب؛ فالمجموعة منجزةٌ ومطبوعة. لكنها بقيت كذلك مميزةً كقصيدة حافلةٍ بالتعاطف الإنساني المؤثّر عن الموت المؤسي الذي يرافق شعباً طيباً تواقاً للحرية والاستقلال والحياة الكريمة.
ختاماً، “قبور لا تنتهي”، مجموعة مميزة ضمن مجموعات قصيدة النثر، وتنتهي بانفتاحها على الحياة مقابل الموت بعرضها أوجه الموت. وكما يبدو هي مجموعة غنية رغم قصرها، وأنيقة بغلافها الذي تبرزه لوحة الفنان السوري سعد يكن. وصاحب المجموعة آزاد شاعر سوري كرديّ، من مدينة القامشلي، درس الحقوق في جامعة حلب. أصدر مجموعتين شعريتين قبل هذه المجموعة هما “القصيدة التي كتبت بلسان مقطوع أو ميثاق الضجر”، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2017، و”حماقات لابد منها”، عن  دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق عام 2020.

آزاد عنز: “قبور لا تنتهي”
دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2020
64 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية