لا يخدعنّك صغر حجمها الذي يُريح صغر حجم زمنَ قراءتك لها؛ فمجموعة الشاعر، الروائي العراقي سنان أنطون “كما في السماء”، تحيلُ خُبزَ تناولك الحلو بفاتحتها، على الأرض المنذورة للهباء، إلى مَرارٍ يقلقُ بوصلةَ اتجاه صلواتك إلى أين؟
ولا يخدعنّك قصر قصائدها كذلك، إذ ستمتد بداخلك مقلقةً أحلامَك، على طول زمنكَ الذي في البدء لم يكن الكلمةَ، بل الطعنةَ التي “خَلقَ فيها الخنجرُ الجرحَ على صورته”، ومضى يحرقُ مراحل أزمنتك لامعاً بوهج الفسفور، حتى استقراره بجسد طفلٍ آخر في فلّوجة العراق؛ بعد حرقه أحلام أطفال هنود “الأباتشي”، بمروحيات “الأباتشي”. كما سوف تمتدّ مقلقةً تساؤلاتِك عن نزول جدّك الغريب من علياء أشجار جنّته إلى سافل جحيم لحم فرائسه من النساء والأطفال، في أنقاض شوارع سوريا؛ وتمتد ساخرةً من أوهامَك، منذ تمام صرختك الأولى نتاجاً لضجر الآلهة، حتى تساؤلاتك المرعبة عن محتوى الغرفة التي بجانبك في قطار الموتى الذي لا يتوقف غير آبه بصلواتك التي يأكلها الهباء.
ولا يخدعنّك، في النهاية، إغلاقك لصفحات هذه المجموعة الأنيقة بعد زمنٍ لم يأخذ من انشغالك غير بضعِ محطاتٍ، فسوف ترافق أيامك التالية قهقهةُ سخريتها المرّة من ركونك إلى قيد ما تمّ تلقينك إياه، وربّما دفعكَ قلقكَ من هذا القيد، إلى أن تفتح قفص ببغائك الذي ينظر إليك مستغرباً عدمَ فهمِك خشيتَه من الطيران. وربّما عدتَ لكي ترتاحَ من قلقكَ إلى أن تفتح المجموعة ثانية لتقرأ بضعة أسطرٍ من اعترافات جدّتك حواء:
“كنت صوتَ الريح
وحين تعِبَتْ
ترجّلتُ عن أضلاعها
وتركتُها ضائعةً
تبكيني في كلّ مكان.
مشيت على الماء
ألف عام
ثم خلقتُني على أديم الأرض
وعندما شعرتُ بالضجر
خلقتُ آدمَ”.
“كما في السماء” مجموعة شعرية مميزة، ببساطة تكوينها أولاً ضمن بنية بسيطة، تتوالى فيها خمسون قصيدة نثرٍ، تعكس عناوينُها المميزة معاني المجموعة ووحدةَ قصائدها ضمن التنوّع. وتتنوّع هذه القصائد بطولها بين الصفحتين والسطرين، وفقاً لأغراضها وكثافة شحنات تأثيرها، مع فضاء الصفحات اليمنى إن انتهت القصيدة قبلها، لمنح العين راحة القراءة. وتستظلّ هذه القصائد بغلاف أنيقٍ تتمركز فيه صورة ورقة شجرة ثلاثية في الظاهر، لكنها تعكس بتكوينها كفراشة وكزهرة أنثى، محور فلسفة المجموعة في وحدة الكون التي ينبض بها جسد القصائد، في البنية العميقة، مثلما:
“في حياتي القادمة
لن أكون أنا
سأكون زهرة برّية
تستلقي على سفح تلّ بعيد
تستريح عليها الفراشات
قد يقطفها طفل
لا يعرف الحروب
يأخذها إلى أمه
يضعها بين نهديها
تقبّله
تشمنّي
وأشمّها”.
ويُكامل هذا المحورُ موزاييكَ القصائد، كلوحةٍ موحدة تمنحُ القصائد، بقوةٍ، شرعيّةَ تكوينها الناجح ضمن كتاب.
في بنيتها العميقة، وكما هو الشعرُ أصلاً في كشفه عن أوهام المُعطى قناعة أو قسراً، وعن الواقع المتفسخ، ورائحة الدم التي تنتشر من أيدي سدنته؛ تهيمن روح المغايرة والاختلاف على المجموعة، في مضامينِ وأسلوب كتابة، وتركيب لغة قصائدها؛ كما في سماء الإيديولوجيا التي أشْقتْ بها رؤى الديانات التوحيدية الإنسان، كذلك على الأرض التي يخترع بها حاملو راية هذه الإيديولوجيا أعتى الأسلحة لقتل الإنسان. وهكذا أيضاً في ظلال وادي الموت، الذي تنشرُ القصائد رائحته أمام أنف الإنسان كي يستفيق من شبكة نوم ما وضع نفسه فيه، بلوحات سوريالية مرعبة تضعه كذلك في غرفة مرايا نفسه، كما لو كان في كابوس: “أمسكت بالملاك من جناحيه ورفعته. كان يرتعش مثل أغصان السدرة. قطعت الحبل السري الذي يربطه بأمه. طار صراخه إلى السماء. قررت أن أخلصه من جناحيه أيضاً. فقصصتهما وأنا أردد “السماء ليست آمن من الأرض”. حين وضعته على الأرض أخذ يزحف… بعيداً، باحثاً عن فريسته الأولى”.
في بنيتها العميقة، وكما تنهج قصيدة نثر ما بعد الحداثة في استخدامها للسخرية رافعةً لصلب الواقع أمام المتعطشين إلى خلاص جديد، تتألق بعض قصائد سنان أنطون بسخرية عميقة تغلبُ عليها المرارة والأسى على المصير الذي يضع الإنسان نفسه فيه. كما تغلب عليها السخرية الخفيفة مما ركّب الإنسانُ من معتقدات وأوهامٍ يقيّد نفسه بها في قصائد أخرى، مثل السخرية من صورة الجنّة في قصيدة الخريف في الجنّة حيث:
“الأشجار دائمة الخضرة
ريح خفيفة
الكهول يقرأون الجرائد
الأطفال يلعبون
الأمهات يراقبن
وهمسٌ يدور:
ملاكٌ آخر
انتحر
الليلة الماضية”.
في بنيتها العميقة يتداخل إلى حدّ التماهي، برؤية الشاعر للكون والطبيعة، فعل تناقل العناصر في الواقع وفعل أحداث الواقع مع فعل الكتابة؛ فكما تتناقل مكونات وأحداث الكائنات أنفسها من مكان وزمنٍ لتكون ذاكرةً في زمنٍ لا حق ومكان آخر، عبر الزمن، كذلك تفعل الكتابة، القصيدة النغمة، واللون.
ويتجلّى الفاعل في هذا التداخل حائكاً: “بخيط الكلمات/ وإبرة عيني/ أخيط هذا الثوب/ للصمت/ ألظم غمامة تائهة/ بريشة طائر منقرض/ غبارَ نجمةٍ/ بوريقةٍ سقطت من ريح”. وطبعاً مع الثقافة العميقة التي تتخلل القصائد وتصقلها بزئبق منتجات الإنسان التي أبدعها منذ نزوله من الأشجار ليكون قاهر الطبيعة وقاهر نفسه في هذا القهر…
وفي بنيتها العميقة لا تتخلّى مجموعة “كما في السماء” عن التعاطف الإنساني، وبالأخص مع الأمّهات السوريات، في قصيدة “ثلاث زنابق” التي تصوّر رمزياً مأساتهنّ في فقد أبنائهنّ ومأساة تعرّضهنّ للاغتصاب من قبل عصابات بشار الأسد. والتعاطف الإنساني مع أطفال الفلّوجة في قصيدة “فسفور” التي تدين قصف الأمريكان لها بقنابل الفسفور إبّان غزوهم للعراق: “عندما كنتُ صبيّاً/ كانت تزيّن ذيل دراجتي/ قطعة فسفور حمراء/ تتألق في الظلام/ كعين قطّة/ كلّما/ أبصرت أضواء السيارات/ البعيدة/ حبيبات من الفسفور/ الفسفور الأبيض/ أضاءتْ سماءَ الفلّوجة/ قبل سنوات/ واليوم/ يولد الأطفال هناك/ برأسين/ أو بلا عيون”.
“كما في السماء”، مجموعةُ شعرٍ، مريحة في القراءة، مقلقة في إثارة التفكير حول فكر الإنسان والطبيعة والكون، متعاطفة مع قضايا الإنسان، بالقدر الذي تنشر فيه المعرفة، وتحذّر من الركون إلى تحوّلها لمعتقدات قاتلة.
وسنان أنطون شاعرٌ وروائي وأكاديمي ومترجم عراقي، يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة هارفارد؛ أصدر مجموعتين شعريتين قبل هذه المجموعة هما: “موشورٌ مبلل بالحروب”، و “ليلٌ واحدٌ في كل المدن”؛ وله أربع روايات هي: “إعجام” عام 2003، “وحدها شجرة الرمان” عام 2010، “يا مريم” عام 2012، و “فهرس” عام 2016.
سنان أنطون: “كما في السماء”
منشورات الجمل، بيروت ــ بغداد 2018
109 صفحة.