تخطو القاصّة السوريّة روعة سنبل في غابة القصة القصيرة، من خلال مجموعتين قصصيتين، «صياد الألسنة» و»زوجة تنين أخضر» يبرز بالجانب الجمالي في نصوصها بتضمّنها حكمة اللايقين والجنون. بحيث تُنسج الحكايات وتُبث مضمونا وروحاً عاماً وخاصّاً، متأرجحةً بين صعودٍ وهبوط، مدٍ وجزر. ويرتبط السيريّ بالمتخّيل فيغدو التمييز بينهما صعباً، تضاف له بداهة السرد المخاتل. ووسط هذه الغابة تتقدم لكنها تتمتع بحرية أن تتحول إلى نحلة أو شجرة، وأن تموِّه نفسها عبر أشكال لا تحصى من التجليَّات. فيرتفع الواقع إلى مستوى التخيِيل، ويبدو الأول صدىً للثاني أو مجرد ظلٍ باهتٍ في حضرته.
……
«ما أقصُّه عليكم هنا ليس جديّاً. فمن غير المعقول أن يخرج رجل من حافّة حكاية، ويقيم في درج امرأة، أو تتحول امرأة إلى وردة ثم نحلة».
لنتفق أولاً: أنّ ثمة حلف من نوع خاص ـ تواطؤ- تريد هذه الحكايات عقده مع قارئها يقول كونديرا: «بدءاً من العبارة الأولى، تكشف القصة أوراقها». فما يُروى هنا ليس حقيقياً. وفي قصة «امرأة بلا قلب»، «لم تكن هناك مدخنة في جدار غرفته، لكنها انزلقت عبرها». من خلال الأسلوب اللعبيّ، وكثافة الرمز والمزاوجة بين المشهد البصريّ والدلالة الوجوديّة (للحزن والخيبة والحرب) تتلخبط الحكايات، ويفقد الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل! فمن هي المرأة الحقيقية في قصة علاء الدين؟ هل هي التي تتوسد ذراعه؟ أم التي تقرأ في سريرها وتدخن؟ هيا احزروا. فكل إجابة هنا هي فخ حيث تُمزج المكونات بمزيجٍ خاص يجعل كل ما يلمسه غامضاً. ثم هل المرأة المصابة بمتلازمة الجدائل، التي تظهر في حياة الساردة مثل طيف، حقيقة أم وهم؟
في قصة «جدائل» يصبح جدل الشعر كناية عن الحزن. إن جدل الشعر تقليد قديم للنساء، وله رمزيّة عالية، فهو يشير، بعكس ترك الشعر حراً منطلقاً إلى الانغلاق على الحزن، وعلى انتظار ما لن يأتي (النجاة). يستعرض النص تراثاً كاملاً من النساء اللواتي يبرعن في جدل الشعر – ربما تحضرنا صورة الجدات هنا- ولكل جديلة لون من ألوان الحزن، وبينما نجدل الشعر ننتظر الحب فلا يأتي، فوق سجادة الصلاة ننتظر النجاة، لكن الخلاص متاح والنجاة مستحيلة.
تتقدم القاصة في سردها – عبر غابة من التأملات الشاردة للطفولة، والخسارة، والعزلة والاختباء (اللعبة الأثيرة للأطفال). كتب شاعر مرة «أذهب وحيداً ومتكاثراً». ثمة خيط يربط الأسود بالأحمر بالأخضر بالأبيض: هو البحث عن شواطئ اطمئنان في قلب هذا الكابوس المسمى الحرب.
«إسمعيني جيداً، حين لا يمكننا النجّاة، نبحث عن الخلاص فقط» وفي النهاية تجمع المرأة المصابة بمتلازمة الجدائل منها حبلاً، «تهمس بصوت حالك كالليل حولنا»، «الجدائل خلاص» ثم تركل الكرسي وينتهي النص بانتحار الساردة وبقاء المرأة المصابة بمتلازمة صنع الجدائل؛ ربما لدفع الكرسي من تحت أقدام نساء أخريات، ألم أقل لكم: الجدائل خلاص!
طغى على القسم الثاني من المجموعة: الولع بالاختباء
اختباء علاء الدين في الأدراج، في حبة فلفل. اختباء المرأة في صندوق الساحر، الرجل الذي ما إن يطل بابتسامته حتى يختفي! لماذا يغادر الآخرون وما الذي يتركونه خلفهم! امرأة تختفي في قميص رجل، وتراقب غرامياته ثم يلقى بها في حوض الغسيل وسط الرغوة والماء.. امرأة ترتبك.. امرأة تبتسم. الأكيد أننا نعثر خلف الارتباك والضحك والاختباء على الحزن، الذي يربض مثل وحش مفترس. يكتب جان كوكتو «الاختفاء فنٌ أنيق» وهو خاصية للموتى والعشاق، لذا لا منجاة سوى بالعزلة بالصدفة الكتيمة للسلحفاة، والسبات الطويل.. أو بالتحول إلى شجرة. كما في حكاية طمث أخضر، وكأنها تقول: «ألا ليت الفتى حجر أو شجرة». ويمكن الاختفاء عن طريق الجنون. وما هو الجنون؟ يجيب بولونيوس: أليس تعريف الجنون هو الجنون بذاته!
في حكاية «دلو في رأسي».. تقرر امرأة أن تضع دلواً في رأسها؟ نحن نبدأ من لحظة سقوطها في حمأة الهذيان، وهو ليس جنوناً بالمعنى التقليدي، لكننا لا نعرف شيئاً وليس مطلوباً منّا أن نعرف، إنه هنا شكل من اللهو فهو الخط الأخير قبل انهيار قلعةِ القلب.
الأبيض: «الحامض والمالح»
الأسود الكلمات: «الحبر، رسائل لا تصل»
الأخضر: «الصمت، العزلة، سلحفاة – شجرة، صلابة، قوة»
………….
كصرخة – طفل ضائع في غابة – تبدو قصة يا جديّ؛ وهي القصة قبل الأخيرة في المجموعة، وتمتزج فيها عذوبة السرد وبراعة التصوير وتبدو إجابة عن سؤال ما هي الشام؟ فسحة البيت، حزّ البطيخ بجانب بحرة تظللها شجرة نارنج، العيون الناعسة نصف المغمضة للجدات، الفسحة السماويّة، والعصر الفضيّ والأغاني التراثيّة. سوق الحميديّة، بوظة بكداش، البروكار والحرير المغلف بالحب.
لكن هل دمشق بخير!
يغني الجد أغنية أخيرة للحفيدة، وهي من التراث الشعبي:
شمّ الورد، وكول تفاح
خلي بالك دوم مرتاح
داوي الحاضر بالحاضر
ولا تتأسف ع اللي راح
تتقدم القاصة في سردها – عبر غابة من التأملات الشاردة للطفولة، والخسارة، والعزلة والاختباء (اللعبة الأثيرة للأطفال). كتب شاعر مرة «أذهب وحيداً ومتكاثراً». ثمة خيط يربط الأسود بالأحمر بالأخضر بالأبيض: هو البحث عن شواطئ اطمئنان في قلب هذا الكابوس المسمى الحرب. وهي مخاطرة الانتباه للتفاصيل التي لا تعني المتحاربين. في مذكرات مارغريت دوراس نقرأ العبارة التالية، «أمضت ساعة على الأقل وهي تراقب موت ذبابة، فنحن اعتدنا أن نرى موت كلب، موت حصان، ونهمهم بقولنا مثلاً، يا للدّابة المسكينة. أما مع موت ذبابة، فلا نقول شيئاً، لا نسجل هذا». هذا الاختلال المعتم جداً، هو ما يخاطر الأدب في الوقوع فيه، وهو ما نعثر عليه في بطولة سلحفاة أو حبة فليفلة، أو دلو في الرأس. أن تكتب يعني أن تسمع ضجيج موت ذبابة عادية وتؤاسيها لحظة احتضارها، أو أن تبني مدينة كدمشق في قلب أغنية… في كلمات أغنية..
٭ كاتبة سورية