مجموعة «مداي» للشاعر السعودي ماهر الرحيلي: قراءة في ثيمات ذات رومانسية

الشعر العربي مر بمراحل ومدارس شعرية متعددة مثله مثل الشعر العالمي، وكل مدرسة أدبية تنشأ بناء على حاجة جمعية للشعوب أتت تلبيها، وتنقلب على ما سبقها وتكمله، وهو من الأمور المتعارف عليها لدى قراء الأدب ودارسيه.
ولكن عندما تكون الموجة الشعرية السائدة ما بعد حداثية لها أسئلتها الإبداعية المختلفة عما سبقها، ونقرأ نص ينتمي ببنيته الشكلية والموضوعاتية لمرحلة سابقة، فأول إحساس يعترينا هو الإحساس بالفجوة مما هو مشاع في اللحظة الراهنة على حد قول الشاعر السعودي محمد الحرز، وما بين ما هو مخالف لذلك بعودته إلى الوراء، وأن يكون من أدب الأسلوب المتأخر، كما سك إدوارد سعيد، الذي لا ينتمي للحاضر بل إلى مرحلة من الماضي العربي.
من جانب آخر قد يكون الانطباع إيجابيا أيضا بأن ما نقرأه الآن يعيدنا إلى لحظة من الماضي يغمرنا الحنين والشوق للانتماء لمعطياتها الحالمة، والهاربة في آن من مواجهة الواقع بكل ما يحمله مع تعثر وتأخر إنساني مقيت. وقد نميل له أيضا لأسباب ذاتية جدا وهو أن هذا النوع من الأدب يعبر عن حالات نمر بها نحن كبشر عندما تتكسر أحلامنا، وتلتبس رؤانا فنحتاج رحلة مع مركب الشعر الغنائي الذاتي نطوف به قليلا أو كثيرا كي تستجمع النفس المؤرقة قواها، وتعود من جديد إلى عالم الواقع وأسئلته الجدلية والإشكالية. وهذا أيضا يعود لتعدد الذوات والانتماءات والميول والنزعات والرغبات التي تسيطر على الذات بين حين وآخر، وتسيطر على البشر بمختلف مشاربهم بشكل عام. كما اننا، كأمة وبشكل جمعي، نتدرج برؤانا للكون والوجود، من الرؤية الرومانسية المثالية إلى الواقعية والواقعية الاشتراكية الثورية، وما بعدها من تطورات.
ولكن مما لا مراء فيه انه بقليل من القراء الواعين تبدأ مساءلة حقيقية للأدب، إن كان هذا المنتج الإبداعي هو ما يمثل هذه المرحلة ويعبر عن واقعنا المعاش وأسئلة وجودنا الإشكالي كأمة ينقصها الكثير حتى تتقدم وتتطور. هذه الأسئلة لا بد أن تكون منتشرة في كافة أشكال الفنون والسرديات، ومن عالم القصيدة بمفهومها المعاصر جدا. هذا هو السؤال الإبداعي الذي لا بد أن يقوم به كل مبدع: ماذا أضيف وأقدم للقارئ وهل ما أقدم للقارئ مثر وممتع في آن، أم إنني أقدم ذاتي من خلال الأدب لقارئ قد يتقاطع مع ذاتي، يشاركني حالة رثاء الذات، عندما تكون الأمة كلها في حاجة ماسة للبكاء والهروب عبر عالم الأحلام، من خلال الشعر وهو لغة اللاوعي، وفق فهم جاك لاكان، التي تعكس الجوهر الحقيقي للهوية الإنسانية.
الشاعر الأكاديمي ماهر الرحيلي بلغة شعرية تعبيرية تستند إلى معطيات البلاغة الشعرية الحديثة، ومعالم الحداثة الشعرية للنص الشعري شكلا ومضمونا، بمجموعة من دواوينه الشعرية، وآخرها «مداي» ينطلق من كون شعري ممتلئ بمعطيات المدرسة الرومانسية في الأدب يعبر عن ذاته وأسئلته الإنسانية المنطلقة من البعد الذاتي للإنسان في الحب، والسفر، والتنقل بين أماكن الطبيعة التي تروم لها نفسه، مثله مثل أسلافه من الشعراء الذين شكلوا حالة شعرية تعبر عن الذات العربية وقتها.
د. ماهر الرحيلي يصوغ فضاءه الشعري بعالم تكون المرأة كل وجوده، يكون التحدي الفاصل بينهما هو الغياب. غياب المرأة سبب في حزن الشاعر كما نلاحظ في نصوصه، كما ان هذه الذات الشعرية الغارقة في عالم من الجماليات الرومانسية تتنقل في فضاءات الطبيعة بوصفها مكانا لتحقيق لذة الذات في البعد عن عالم البشر ونزقه وعنفه تجاه الآخر. ونحن نعيش في هذا العالم المليء بالشر، لا بد أن يكون عالم الحلم مصدرا للراحة المؤقتة هروبا من هذا الواقع المأساي للراهن العربي، ولربما تكون هذه اللغة الشعرية الحالمة هي وسيلة الهروب من الواقع.
ولعل أول ما يؤكد لنا ذلك ان القصائد الأربع الأولى في مجموعته الشعرية كانت تسأل أسئلة جدا معاصرة وراهنة حول الواقع السياسي المتأزم، الذي يسبب للشاعر أرقا كثيرا، ويثير بفكره أسئلة وعي كبير لم يجد لها الشاعر إجابة :
ففي نص: «صلاة وسلام وسؤال» يخاطب الشاعر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يسائله وهو سيد الأخلاق الحميدة عما حدث من انحرافات أخلاقية في حياة البشر، يعيد استلهام أخلاق الرسول الكريم (ص) ثم يسأله عما يدور من ثقافة إساءة الظن بالآخر المنتشرة في محيط الشاعر، وهي إشارة مرجعية لأخلاقيات المجتمع الذي يعيش به الشاعر:
«كنت المسالم في ظنونك .. ما لنا
صرنا نسيء الظن لا نتجمل؟1». (مداي، ص7)
النص الذي يليه مباشرة هو نص « طفلة حمصية» ينتقل فيه الشاعر من نقد الأخلاق العامة للبشر من حوله، لرصد مفارقة إنسانية أخرى تتكئ على وجع المواطن العربي الناشئ عن عدم قدرته تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بينه وبين الأغيار، إذ يأخذ من الطفلة الحمصية مدخلا لنقد مفارقات السياسة الظالمة في سوريا في ظل الحرب تحرم طفلة من شروط الحياة الإنسانية الطبيعية في رقعة جغرافية ظالما بينما هو يعيش في بيئة أكثر أمانا وترفا إنسانيا، ليرصد المفارقة الإنسانية:
« وابنتي تهدي ابتسامات وضاء
ترقب الوقت لتمضي
تنهل العلم أمانا وهناء
وبـ «حمص» طفلة بالحقد تسلخ»!! (مداي، ص:9)
الراهن العربي يتبدى بوضوح في نص «حزن الأوطان» الذي ينتقد فيه بمباشرة كاملة المتسببين بالحروب من الخونة والجهلة الذين يضيعون الإنسانية بسبب جهالاتهم.
لذا نجده يبين بشكل واضح في تغريداته الشعرية، بوصفها أسلوبا جديدا بدأ يستخدمه الشعراء في عهد تويتر فارضا بلاغة جديدة في الكتابة الشذرية المكثفة، ناقدا الإعلام الذي يقوم بتخدير الشعوب وتزييف وعيهم من خلال نظرية السلطة والمعرفة الفوكوية، بقوله:
«إعلامنا ..
قتل وتشريد وتهديد
ومسابقات للغناء
وسهرة في الليل مع فلم جديد أبدعته بفنها هوليود!!». (المجموعة، ص: 193)
أليست كل هذه الصور من الحياة اليومية الواقعية المرتبطة بالصميم بالهم السياسي كانت سببا في الهروب من الواقع بلغة الحلم والمرأة والحب، والتحليق في عالم السماء، والسفر عبر البحار لمعالجة النفس مما يعتريها من أحزان والعيش في عالم الذاكرة المليئة بالحب والمنى أحيانا، والحزن والفقد أحيانا أخرى.
لو التفتنا إلى ما بعد القصائد الأربع الأولى لوجدنا المجموعة الشعرية مليئة بمظاهر الأدب الرومانسي الذي يحتفي بالمرأة، فـ»شغف الكتابة» عنده متعلق بالمرأة حيث يبدأ بخطابها: «سأكتب حتى ولو كنت عني بعيدة» (ص:61)
مما يعني إنها هي مركز الكون لديه الذي من خلاله يكتب كتابة مليئة بالبهجة إن كانت قريبة، ومليئة بالحزن والسوداوية إن كانت بعيدة. بل هو في عدد من عناوين المجموعة يخاطبها بشكل مباشر: «قولي: أحبك»، «لا تتعجبي» ، «غيبي»، «وتبقين»، «أنت كيفك»» شعري وأنت»، رشفة وأنت» ، أو من خلال ذكر اسمها الذي أتى بمرة يتيمة في النص: «لجين».
ولعل النهاية المثلى بعد هذه الرحلة السماوية لعالم النقاء والحب والسحاب والمطر هو أن يختم المجموعة الشعرية بأمنية وحكمة بأن، يهبط لأرض الواقع، ويعلن ان الموت قادم لا محالة وبعد الموت سنتمنى لو تصافحنا وعشنا بسلام لدقيقة ليقدم رؤيته الإنسانية في التعايش السلمي، وليكون مداه الشعري خليط من الحب والحزن والنقاء والأمل في تحقق السلام:
«للقلب أنملة يشير بها إلى مثوى الحقيقة!
وعيوننا لا تبصر الكف الرقيقة!
متشاغلون!؟
ستجف كل عروقها يوما.
ونرجو لو تصافحنا دقيقة!».
*ناقدة وكاتبة كويتية
د. ماهر الرحيلي، «مداي» مجموعة شعرية، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى، 2013.

سعاد العنزي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د نصار:

    رائع ما كتبته الناقدة سعاد العنزي ولأني أعرف الشاعر شخصيا واتلمس ذائقته الإنسانية والشعرية فإني اكاد أجزم أن الكاتبة قد سبرت أغوار القصائد وتعمقت في إبداع الدكتور ماهر واضافت الى ابداع الشعر إبداع القراءة

إشترك في قائمتنا البريدية