تنسحب سنة 2023 مبهمة ومحملة بضجيج الحروب وزحف «اليمين المتطرف» في أوروبا نحو سدة الحكم في حضرة يسار متحلل ويمين جبان بلعب آخر أوراقه. عالم ينبئ بشؤم قادم بخطى حثيثة، لا يختلف كثيراً عن المناخ العام الذي سبق صعود النازية والجبن العالمي الذي تخلله في مواجهة ترسانة حربية مدمرة، بالبحث لها عن مبررات الوجود. تنسحب سنة 2023 تاركة في أثرها رماداً كبيراً وخوفاً لا يجدّ على البشرية، والرأسمال المالي/ العسكري يريد أن يستحوذ على كل الخيرات الطبيعية ومراكز المال والمواد الأساسية الضرورية كالنفط والذهب وغيرهما. أينما ولينا أوجهنا ثمة بؤر وحرائق تتسع في خفوت. قنبلة تايوان حية وتتسع مخاطرها ليس فقط على الصين وأمريكا، ولكن على البشرية كلها. رئيس كوريا الشمالية بعد تجريب صاروخها الباليستي الأخير، يهدد بضرب كوريا الجنوبية وتدميرها معتبراً إياها العدو المركزي الأول. ويرد رئيس كوريا الجنوبية بمسح كوريا الشمالية من على الخريطة بعد المساعدات الأمريكية الثقيلة. انهيار الشخصية الاستقلالية الألمانية التي أصبحت منذ حرب أوكرانيا تابعة لأمريكا لدرجة أن تخلت عن مشروعها الغازي الضخم مع روسيا دون عقل أو براغماتية، بينما ظل الغاز الروسي يتدفق على كثير من البلدان الأوروبية. فقدت ألمانيا صوتياً ولم يعد لها وجود، وهي التي كانت رأس القاطرة الأوروبية.
أوروبا ماتت كقوة فاعلة أو هي في طريقها إلى ذلك. بينما فرنسا، بعد أن غرقت فترة طويلة في ملف التقاعد، ها هي تدخل درباً ضيقاً؛ ملف الهجرة الذي سيخنق اليمين التقليدي الذي لم يعد موجوداً تقريباً بعد تمزقاته المتتالية الداخلية. ومن أجل تمرير هذا القانون الذي رفض في القراءة الأولى، تم تمريره في القراءة الثانية بعد تحالف بقايا اليمين الحاكم مع اليمين المتطرف؛ ليضرب قانون الهجرة الجديد بكل التقاليد الثقافية والإنسانية الفرنسية التي أصبحت قوقعات فارغة بلا روح ولا حياة.
حتى «حق الأرض» للمولودين على الأراضي الفرنسية الذي عمره قرون، تم هز كل أركانه. بلمسة كف عنصرية، تم مسح جهود أجيال كثيرة والاستجابة السهلة للمد العنصري في فرنسا لدرجة لم نعد نفرق ما هي حدود اليمينين، التقليدي والمتطرف. في ظل هذه الأوضاع المربكة، ستكون السنوات المقبلة شديدة الخطورة وسنصل بخطى حثيثة إلى ما بشر به رونو كامو، صاحب نظرية الإحلال الكبير «Le Grand Remplacement».
كل الأبواق العنصرية متوائمة حول هذا، وبينت أن صوتها سيكون كبيراً في الاستحقاقات المقبلة. هناك انبطاح أوروبي كلي أمام الغطرسة الأمريكية التي شكلت وحدة استراتيجية مع بريطانيا بعد أن انسحبت الاتحاد الأوروبي، وشكلت مع الولايات المتحدة ثنائية قوية تحتل المناطق الأكثر حساسية، وباب المندب مثال واضح على ذلك. التحكم في باب المندب سيخنق دولاً عديدة، ومنها إيران التي تعيش على حلم تسويق نفطها الذي لن يعبر نحو أوروبا والعالم إلا إذا خضعت لقرارات أمريكا وإسرائيل والتوقف سلمياً عن تطوير مشروعها النووي. وهو ما يوحي بحدوث أمرين، إما الاستسلام الإيراني أو حرب ترتسم في الأفق ولا أحد يأمن شرورها.
الحرب الأوكرانية الروسية أصبحت في المرتبة الثانية و/أو الثالثة من حيث الحروب الاستراتيجية المهمة، كأن أمريكا قبلت بالتقسيمات الأرضية نسبياً، على الرغم من استمرارها في العمل لإنهاك روسيا كقوة ثالثة لها ميزانها، آخرها التفكير في وضع 300 مليار دولار من المخزونات البنكية الروسية، في البنوك الأمريكية والأوروبية وتسليمها لأوكرانيا كتعويض لما لحق بها من دمار، وعدم الاكتفاء بالفوائد فقط.
إن تفرد دولة واحدة، بمنطق إمبراطوري، بسن القوانين الدولية والتحكم في أنفاس الاقتصاد العالمي، يزيد من خطورة الأوضاع الدولية.
فلسطين ليست خارج هذه الحسابات الدولية؛ فهي تشكل بؤرة صراع ساخنة ومدمرة. كأن إسرائيل التي عجزت عن تخطي قوة المقاومة في غزة، تقف مرتبكة أمام مصير أصبح مبهماً، بين يدي رجل لا شيء يهمه سوى استمرار الحرب لتفادي المحاكمة والسجن، في بلده. بتحالفه من اليمين الديني العنصري ضمن نتنياهو استمراره ولو مؤقتاً، ويشعر كأن الوقت قد حان للبدء في تنفيذ خطة «الدولة الدينية» التي حاربها الغرب عندما اختار العلمانية التي قدسها إلى درجة تحويلها أيديولوجية، ولكنه بررها لإسرائيل. الخطة الحالية تسير وفق خطين: الأول شكلي، والثاني عميق.
كسر حماس وإنقاذ الرهائن أصبحا مجرد صرخة لا معنى لها. الثاني هو إنهاء شيء اسمه دولة فلسطين، بالاستيلاء كلياً على غزة وضم الضفة الغربية إلى «دولة إسرائيل» الدينية الإمبريالية. وستكون أمريكا أول من يعترف له بذلك. وضمن هذا المخطط الذي يتبناه نتنياهو وزمرته الدينية، سيعيش الفلسطينيون تحت رقابة إجرامية كلية في كانتونات معزولة، بلا أسلحة دفاعية. وينتهي الأمر بطرد «الرئيس» أبو مازن لأن «إسرائيل» تريد الدولة كلها. إرغام وإغراء الناس على الخروج، في غزة والضفة؛ أي «48 مكرر». وسيعيش الفلسطينيون في ظل «دولة يهودية» بإقامات مؤقتة، ويمكن طرد أي فلسطيني لأنه سيكون وقتها مقيماً وليس مواطناً. وعندما تعلن الدولة الدينية رسمياً، حسب الحلم الصهيوني، سيصبح الفلسطيني، غير اليهودي، شخصاً طارئاً على الأرض. قد تستمر العملية بعض الزمن، لكنها ستنتهي عند هذا المنطق الذي يحلم به نتنياهو وزمرته الدينية المتطرفة. إلا أن المقاومة الفلسطينية الشرسة أفسدت هذه الحسابات كلها. الغزاوي لن يغادر أرضه التي أصبحت مقبرة مفتوحة أمام عالم متوحش لا علاقة له بحقوق الإنسان.
يجب ألا نخطئ فقط في الحسابات، لأمريكا حليف واحد ووحيد، وهو إسرائيل. المقاومة كسرت شوكة نتنياهو في إسرائيل الكبرى التي تتمدد عربياً في ظل مناخات الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية بعد انهيار القوتين العظميين في المنطقة العربية العراق وسوريا، وتحييد أكبر قوة عربية في المنطقة، مصر، التي يتم إغراقها في أزمات آتية شديدة الخطورة: مشكلة الماء مع إثيوبيا، وضرب قناة السويس اقتصادياً باعتماد خط مائي جديد يمر عبر صحراء النقب؛ أي إعادة تنشيط مذكرة 1963 الصادرة من مختبر لورانس لفيرمور المدعوم من وزارة الطاقة الأمريكية، وتكون قناة بديلة عن قناة السويس، ما سيخنق مصر نهائياً. الكلمات المنزلقة من هنا وهناك من مسؤولين إسرائيليين ومن نتنياهو نفسه ليست كلمات عرضية، ولكنها بالونات اختبار حقيقية.
لا قوة بديلة إلا قوة المقاومة التي بإمكانها إفساد هذه الخطط المدمرة، وإلا فأهلاً بالخراب والتدمير المنظم والحروب البينية والإرهاب المُسيَّر (أين داعش والقاعدة، أليس الوقت مناسباً لإظهار الاستماتة والاستشهاد من أجل قضية فلسطين العادلة؟) والنهب العلني. لهذا، حرب غزة ليست في النهاية حرب غزة وحدها.