مخطئ من يعتقد أن الشعر مجرّد أثر لغوي، أو شفهي، مرتبط بحالة مرتبطة بشكل محض بالشاعر. إن حاولنا تأمل التغيرات التي طرأت على النتاج الشعري منذ بدء تدوينه إلى اليوم، سنكتشف معا أنه كان ولا يزال طريقة حياة، وهو مرتبط على هذا الأساس بكل الاهتمامات المدنية للإنسان. يحضر الشعر في الأغاني كشكل من أشكال التحرر والانعتاق الروحي للذات، كما يحضر في مظاهر مرئية أخرى، يعتقد الإنسان العادي أن لا علاقة لها بالشعر.
في زاوية من المقهى الذي ألفت الجلوس فيه لاحتساء قهوتك، يأتيك الشعر من حيث لا تدري، الأصوات والأنوار والوجوه، تلعب دورا في تكوين صور شعرية على غير توقع في مخيلتك. في الشارع، في قلب الزحام وضجيج السيارات والمارة، يتوقف كل شيء فجأة أمام صوت ينبعث من داخلك، يعيد ترتيب كل ذلك المشهد بطريقة مختلفة، تتهامس السيارات في ما بينها، وترقص الأضواء على إيقاع موسيقيٍّ مفاجئ، ويتبعثر الزحام كما لو أنه مجرد غيمة افتراضية لتبقى أمامك شابة غير آبهة بك، تمضي في طريقها وكأنها تتوغل في قلبك، تصنع قصيدتك وأنت بعد مذهول من مفعولها عليك. لا متسع للهروب من كل ما يحدث، إنك فريسة سهلة لكثافة الشعر التي تمكنت منك.
هكذا يأتي الشعر، مباغتا وجميلا، سواء كنت حزينا أو سعيدا، فاشلا كنت أو ناجحا، مشغولا أو غير مشغول. الشعر في كل مكان، حيث تكون وحيث لا تكون، يكفي أن تفتح عينيك لتراه، وتخفف من لهاثك لتصغي إليه، إنه حاضر حيث تكون، وفي حقيقة أخرى فيها الكثير من الغرابة «الشعر مهمة الجميع، فلست وحدك من يبتكره». ليس المجتمع من يصنع هوية الشعر، وليست المؤسسات التي تحتكر الثقافة كمادة قابلة للأدلجة. يخرج الشعر من ثقوب هذه الحاضنات البائسة، وينبثق من نفسه، مثل الينابيع التي تشق الصخر، وتسيل في الأراضي القاحلة، فتغير وجهها الميت، أو مثل الأزهار الصحراوية التي تباغت القيظ والجفاف، وتعلن عن حلول الربيع. تقف أمام أسئلة ملحة تنتظر إجابات حول مستقبل الشعر، وقد ترتجف من الخوف، لأن بعض المنظرين يلمحون لنهاية الشعر، وتقهقره، قد تشعر بأن بركة كبيرة من الأوحال تتربع في داخلك، ولكن كل ذلك يجب أن لا يتجاوز مساحته الافتراضية الصغيرة، فأنت شاعر، ومسألة وجودك لا تتوقف على من يطرح هذا النوع من الأسئلة، ولا على من يتملّق المنصات الإعلامية بأجوبة صادمة.
في الواقع السؤال نفسه طرحه فلاسفة، وكتاب ونقاد وشعراء منذ عصر أفلاطون، ولاقى الشكوك نفسها، ولكن كل شيء كان ينتهي بعبور صعب للشعر لضفاف النجاة.
يذهب الشاعر أيضا بعيدا في اختلافاته عن الوعاظ ورجال الدين وخطباء السياسة. فما يقوله شكل من أشكال الفكر والتحرر، لا يرسم أي خطوط حمر يمنع تجاوزها، لا وعيد ولا تهديد ، فقط كلمات تتوحد بشكل ما فتبعث السعادة في قلوبنا.
أنت نفسك تعرف أن طرح السؤال حول مستقبل الشعر، أو هويته لم يعد له معنى، في قرارة نفسك تدرك أن الحديث عن «أزمة الشعر» محاولة لخلق الأزمة، وليس العكس. ولعله من الأجدر اليوم أن نتحدث عن «سر استمرارية الشعر» وعن تحولاته العظيمة للإبقاء على جمالياته وتأثيراته. أنت شاعر، وكل هذه الوسائل المُروِّجة للتفاهة اليومية، لم تقو على سلب ما تملكه من وهج سببه الشعر. هذا لقبك منذ حملتك الكلمات السحرية التي تلفظت بها إلى عالم القصيدة. هذا رداؤك، قبعتك الخفية التي تجعلك لا تشبه الآخرين. مصيرك وقدرك. الشعر قدر كما يفسره شعراء منذ الأزل، وهذا ليس بالأمر الخاطئ أبدا. ثم من غير المنطقي أن ندّعي أن الشعر في أزمة، وهو كل ما تبقى للإنسان لاكتشاف فضاءاته الحرة الفسيحة التي تسكنه. لا مبرِّر أبدا لرفض هذه الحقيقة، أمام الضيق الذي نشهده ونعيشه، خاصة اليوم، بتعدد أزماتنا صحيا واقتصاديا، ونشوء أزمة جديدة فكّكت علاقاتنا الإنسانية بقاعدة «لكي تحمي من تحب ابق بعيدا عنه». تصل الكائنات الحية إلى نهاية مغامرتها آجلا أم عاجلا، لكن المغامرة الشعرية لا تنتهي، حتى حين تسعى المدارس النقدية إلى «البطش» بالكيانات الشعرية، كما لو أنها كائنات من لحم ودم إلاّ أنها لا تموت، بقاؤها يصبح حتمية مرتبطة باختلاق ما يسمى بأزمات الشعر.
الشعر يلبي نداءات النّجدة التي ترسلها صورنا الحية أو أرواحنا سريعة العطب. موتنا الحتمي، انتهاء اللحظة التي نعيشها بكامل جوارحنا، لا شيء ينقذها غير الشعر، حتى أن الوظيفة الأساسية للشعر في الأخير يبدو لنا أنها تأخذ على عاتقها مهمة ترميم كل هذا الخراب الذي يحلّ بنا، وهو في الغالب من صنع أيدينا.
العودة إلى الذات، أو لحظة الشعر، هي اللحظة الفارقة التي يقابلها تجانس حقيقي بين الشاعر بنسختيه، النسخة الحقيقية التي تعيش في الخارج، والنسخة اللامرئية الشفافة التي تعيش في الأعماق، علما أن العالم الخارجي محدود، لكنه مُلهِم، أما العالم الداخلي فلا شيء يقرّب صورته إلى إدراكنا البسيط سوى مغارة علي بابا المليئة بشتى أنواع الكنوز. أبعاد الشعر إذن تبدأ من كل المؤثرات الخارجية المحيطة بالإنسان ولا تنتهي أبدا، حين تصبح نسخا مصفوفة في عقله، بحيث تأخذ أشكالا جديدة تفوق أي خوارزمية معقدة لعدد لا نهائي من الأرقام. علينا أن نسجل أيضا أمام هذه الحقيقة انسحاب الإنسان إلى عالمه الوهمي، أو لنقل أن الإنسان الوهمي هو الذي انتصر دائما وعبر كل العصور، هو الذي يبقى، وهو الذي يصعب تدميره، ببقائه بعيدا نسبيا عن التوتر والعنف والحروب، التي تدور رحاها في العالم الحقيقي الملموس. كشاعر، تعرف بينك وبين نفسك أن نسختك الوهمية هي نسختك الحقيقية، وأن كل هذه الفرضيات وليدة من لا يعرفك جيدا، المشكلة في أعينهم، التي لا ترى الأعماق، ولا تراك جيدا بظلالك الداخلية، كما لا تقرأ شيفرتك التي تكشف عن كل خباياك. ربما قبل مئات السنين، كان الشاعر يحاول التأقلم مع البيئة الوحشية التي تهدده، مع أن مخاوفه كانت تحول دون تطابق نسختيه، لكن اتساع الفضاء الافتراضي وانسحابنا إليه مع مرّ الزمن جعل الكائنات الوهمية التي تسكننا تنتعش أكثر، مع ازدياد واضح في سطوتها علينا.
هل يرتفع صوت الشعر في أعماقك أيها الشاعر؟ وحدك تسمعه، وتريد له أن يكون مسموعا أكثر، أنت لست الطباخ الذي يتقن اختيار المقادير لوجبة لذيذة، الشاعر لا ينخرط في هذه اللعبة، عليك أن تشرح لهم أن الشعر سرُّك الخاص، وإن صُغْته بكلماتك ولغتك وأفكارك. ثمة شيء ينمو كالشجرة المجنونة التي توحّد التربة بالهواء، يشعرك بالإثارة، وبارتقاء روحي يجعلك تعيش الحالة الشعرية. بالطبع ليس سهلا وصفها، وتحديد ميكانيزماتها، لأنها تجاوزت المفاهيم القديمة التي قلّصت كثيرا من أهميتها وسلطتها. ربما لهذا السبب تقفز العبارة القديمة لهنري ميشو «الشاعر طبيب عظيم»، وهو قادر بأدواته اللغوية البسيطة، أن يبلغ أعمق نقطة في العقل الباطن لقارئه، كما بإمكانه التواصل بشكل خفي مع شبكة قراء واسعة.
يذهب الشاعر أيضا بعيدا في اختلافاته عن الوعاظ ورجال الدين وخطباء السياسة. فما يقوله شكل من أشكال الفكر والتحرر، لا يرسم أي خطوط حمر يمنع تجاوزها، لا وعيد ولا تهديد ، فقط كلمات تتوحد بشكل ما فتبعث السعادة في قلوبنا. ينمو الشعر ويتجدد كما تفعل اللغة، ويرى البعض أن «السكن الشعري للعالم هو نظام اليوم» كما يمكن تسميته بالمخبأ الوهمي الآمن.
شاعرة وإعلامية من البحرين
??
الاديب الكبير و الشاعر إدغار آلان بو اعتبر ان القصيدة خلق ايقاعي لجمال معياره الوحيد هو الذوق ، ومن اهم موضوعات الشعر عندما سئل عن هذا الامر قال ادغار الان بو سئلت نفسي ما الموضوع الذي يتفق الناس جميعاعلى انه اكثر الموضوعات اسى ؟و كانت الاجابة واضحة انه الموت.ثم قلت لنفسي ومتى يكون هذا الاسى اكثر شاعرية؟فاجبت حينما يكون الاسى في اشدّ حالاته تحالفاً مع الجمال ،لأن موت امرأة جميلة هو بلا شك اكثر الموضوعات شعرية او شاعرية في العالم و ان الشفتين المؤهلتين اكثر من غيرهما لهذا الموضوع هما بلا شك شفتاه مُحب دمره موت حبيبته.و هذا الموضوع بالذات هو ما طغى على ادبه وشعره بعدما ماتت حبيبته ومات في الاربعين من عمره وترك اثركبير على كبار الادباءوالشعراء.
البعض من الناس يعتبر الشعر مضيعة للوقت و لا فائدة ترجى منه ،الشاعر غوته عندما سئله احدهم مستهزئاً قائلاً وبماذا ينفعنا الشعر؟فاجابه غوته بما ينفع الشعر؟جدواه في انه جميل الا يكفي ذلك؟الا يكفي انه جميل كمثل الازهار و الروائح العطرة والاشجار والعصافير و غيرها من اشياء ينتفع بجمالها الانسان و ترفعه فوق ضرورات الحياة الطبيعية وبذلك يصبح فعلاً انساناً و عموما ما ان يصبح الشيء مفيد و يقصد غوته طبعاً على المستوى المادي حتى يتوقف عن ان يكون جميلا ،طبعا رد جميل من غوته. ونسطيع ان نقف على الشعر كذلك الادب والثقافة والفكر والرواية والقصة والفنون بشكل عام وكل هذه الامور اضافتاً لكونها تمنح الحياة من معنى و هي ايضا تخفف من وطأة الواقع تُزيّن هذا الواقع الذي يكون صعباً في اغلب الاحيان تُزيّن حياتنا بلمسة من جمال و ذوق وابداع واحساس عالم بلا ثقافة بلا ادب بلا شعر بلا فكر بلا فن هو مثل مرجٍ بلا زهور هو عالم فارغ عالم حزين يتحول فيه الانسان فعلا الى مجرد انسان الي لا عمق له ابدا