مختارات الشاعر المغربي مبارك وساط «أنطولوجيا شخصية»: تفتَحُ فضاءات الخيال لكينونة الذات

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

«رجلٌ يبتسم للعصافير»، «محفوفاً بأرخبيلات»، «على درج المياه العميقة»، حاملاً «راية الهواء»، ينظر «بعيون طالما سافرت»، إلى «فراشة من هيدروجين»، توشك على الانفجار، ويشير لنا أن ننظر باتجاه ما تقودنا إليه حواسّنا، لا أحاسيسه التي فتح لنا أبوابها الستة، وأضاف لها باباً سابعاً مما لم يأسرْه قفصٌ بعدُ كتحليةٍ، لأسْر حواسنا. ونحن على كل حال سنأخذ بنصيح إشارته دون إرادةٍ منا، في خِضمّ غرَقِنا بما تثيره أحاسيس كينونته التي لم تعد شخصية له فينا، بعد أن عشناها، وكنا نظن أننا نقرأُها فحسب، بحاسّة إحساسٍ جديدةٍ عرفنا للتوّ أن أرواحَنا مزودةٌ بها، وأنها لا تسير كما البشر المعتادين على رؤوسٍ، أكثرَ مما تطير بأجنحةِ سمكةٍ، إلى عوالم توقنا، لكسر المألوف.
الشاعر المغربي مبارك وساط يفتح لقارئه أبواب مختارات شعرية من مجموعاته الستّ التي نشرها بدءاً من عام 1990، ويطوّق مختاراته بعنوان غريب هو «أنطولوجيا شخصية»، يشير بثيابه إلى «علم الوجود» في شقه الأول، غير أن شقّه الثاني يُعرّي هذه الأنطولوجيا الجذابة من هذه الثياب إلى «كينونةِ» ذاتٍ، نكتشفُ أنها شخصيةٌ حقاً بتفرّد إبداعها، لكنها غير شخصية كذلك، بما تتشارك به من كينوناتِ أخواتِها في البشرية، سواء وهي تتحدث عنها داخل المجموعة، أو تتشارك معها في توارد الخواطر وتبادل الأحاسيس خارجها.
في هذه الكينونة التي تَشِي بالحركة، يحرّك وساط قصائده المختارة التي تتجاوز انغلاقها السابق في مجموعاتها، إلى تكوين جديدٍ، يوحي بسعي هذه القصائد داخل الذات التي تختارها كأسماكٍ من أحواضٍ مختلفة، إلى وحدةِ تماثلٍ واختلافٍ، جديدةٍ، في حوضٍ جديدٍ، مع أخواتٍ أخرياتٍ وُلِدن في أزمان أخرى، لمنح بعضها حياةً جديدةً متشارَكة، حيث تتألق الذات بالنبض في انعكاسات تفاصيلها على سطوح الذوات التي تُشاركها المكان. وهو ما يمكن اكتشافه في طبيعة هذه القصائد التي يمرّ فيها هيكلٌ عظمي ليرفع معنا نخباً على طاولةٍ في مقهى، كاسراً حواجز الأزمنة والأمكنة، ومقيماً الجسور بين بداياتنا ومآلاتنا، كاشفاً بذلك أفعالَنا وضمائرَنا، مخاوفنا وبواعث أماننا، أحزاننا وأفراحنا، في الألم والأمل، الحياة والموت، وفيما هو أبعد من ذلك، وجودُنا وعدمُنا.
وفي هذه الكينونة، يجلس وساط أمام حوضه الجديد، ليرى سمكاته المختارة في أعيننا كقراء، وهي تلعب بالموج، تتموج، وتستمتع بالتعرف على ما يجمعها مع بعضها كأخواتٍ أمام دهشتنا، وتتحرك لتعكس النبع الذي انبثقت منه، ولتنسج حكايةً جديدةً موحدة تتضافر تفاصيلها، لتمنح من يشاهدَها متعةَ عيش أسرار اختيارها، والخروجَ سعيداً بعلبة الثمار التي جمعَ، من المزرعة البيولوجية التي زار، وربما فكّر بأسرار تكوين هذه الثمار.
في تكوين مختاراته يعيد قارئ حوض أسماك الشاعر الجديد، اكتشاف مزايا سمكاته الفنية التي لا يمكن حصرها في قراءة، وإنما يمكنه أخذ تذكاراتٍ عما استقر منها في كينونة ذاته التي تعيش تساؤلات الإنسان عن وجوده، من أين أتى، وإلى أين يمضي، من أين تنبع آلامه، وكيف يعالجها بما يساعده على تحمل أعباء الوجود ومداراة الخوف من العدم؟
من تذكارات مختارات وساط، يمكن للقارئ مسبقاً الإحساس بمن يرافقه في رحلة تكوين الذات التي يشهد ويعيش، إلى جانب عيشه تجربة قصيدة نثرٍ فريدة، تنتمي إلى أساليب ما بعد الحداثة بامتياز، حتى في سلوكها بنشر أجنحتها حرّة مجانية لمن شاء أن يطير بها على الإنترنت؛ بخصوصية الشاعر في عدم الالتزام بما تطرّف منها. ولأن الحكايةَ هي أحد أهم أسرار تكوين البشر، يمكن للقارئ أن يعيش أسلوب الحكاية في معظم قصائد المختارات، سواء منها المصاغة بأسلوب القطعة، أو السطر الطويل والقصير، في قصيدة النثر، من دون أن تتحول الحكاية إلى قصة قصيرة. ففعل الماضي الذي يبدأ فيه وساط سردَ حكايته الشعرية (بمختلف أنواع السرد، الذاتي عنه، الموضوعي عن الآخر، بأزمنة الماضي، الحاضر، والمستقبل)، سرعان ما يتحوّل في القراءة داخل القارئ إلى حاضر مثيرٍ للتساؤل ومؤرّقٍ، بقدر إثارته للمتعة الجمالية النابضة بسحر جملة وساط الشعرية المتفردة.
من تذكارات وساط، يعيش القارئ متعة الصورة المركبة المدهشة التي لا تتداخل هكذا سوى في الأحلام والكوابيس، وفي تركيب الجملة الشعرية لدى شعراء شطح الصورة إلى أقاصي أبعاد الكتابة الآلية السوريالية؛ وما يميّز شعرية صورة وجملة وساط هو الدهشة التي لا تمسح معظم جمل القصيدة بطزاجة تركيبها ولغتها فحسب، بل تمسح القصيدة ككل أيضاً، بالقفلات الغريبة التي تسير عكس المفهوم والمتوقع، خارج الإنشاء وداخل ما تشاء القصيدة، لتدخل وتتداخل بجمالها في ذات القارئ.
ويضيف وساط إلى ذلك إطلاق الجمل بتدفق لُهاثي، بالصور والتراكيب والمجازات والرموز، ولا يُبقي لقارئه نَفَساً لالتقاط المعنى الذي ينسرب خلال الجريان في أحاسيسه، ويغمره بمتعة الإحساس السعيد بالتخفف منه، ومن عبء التفكير فيه.
ويعيش القارئ إضافة إلى ذلك، عوالم الدهشة في قصيدة نثر القطعة الشعرية التي تمثلها بامتيازٍ قصيدته: «على رصيف مقهى» التي يفتتح بها المختارات، وتكاد أن تمثل جوهر عوالمها، بما تثيره من فزع في جملتها الأخيرة التي هي جملتها الأولى التي سرعان ما يعود إليها القارئ، ليتأكد مما ترى عيناه: روّاد مقهى موجودون لكنهم قتلى يحوم حولهم العدم بتفاصيل محوه للوجود، بما يشبه خلق عوالم الدهشة في قصيدة رامبو «النائم في الوادي»، عن الجندي الغافي وسط دِعَة الطبيعة، ولكن بثقبين أحمرين على جنبه الأيمن. وبما يشكل رؤية حريرية مفزعة جارحةً بسيفٍ الحرير للحرب والمجازر، ولما ينتظر الإنسان من عدم.
ويضيف وساط في قصائد أخرى مشابهةٍ بعض مفاهيمه عن شعرية المكان التي تمسح معظم قصائد المختارات، مثل قصيدة «أماكن»، التي تتعانق فيها الحياة والموت خارج وداخل الذات المتداخلين كذلك، وختام هذا التداخل المفزع بالصيحة التي تذكر بلوحة «مونش». ومثل قصيدة «تفاصيل الدهشة»، التي تتمثل فيها قصة حبّ واغترابٍ وسريانٍ للحياة في الموت، بأسلوب نثر السطر، وينثّ فيها وساط أنفاسَ وتفاصيل الحبيبة في المكان الميت برحيلها، ليبعث النبض في المكان، مع الحسرة والأسى الذي يخيم عليه.
ويضيف أيضاً مفاهيمه حول تشكيل القصيدة، بعنصر التضاد الذي يشد القصيدة بسلك التشويق، كما يفعل في قصيدة «شرفة»، التي تسير منذ البداية بتتالي المتضادات معبّرةً عن صراعها، ومآلها، وتماثل حركتها مع الموجودات، وتَجسدها في الكتابة: «رنين عضلاتِ الليل المعدنيةِ، ضجيج النهارات المتقيحةِ، رصاصاتُ الليل والنهار الطائشة، الرماد: ذاك ما تعرفه أيضاً أفواهنا. من هذه النقطة انطلقتُ. وها هي تتدحرج الآن نحو النقطة المجاورة، حيثُ جلس رجلٌ بهيئة شحاذٍ. أطلقَ وابلاً من الشتائم، قاصداً لا أحدَ، ربما. شَربَ نشيداً من الدموع في أقداحٍ مكسورةٍ. بكى تحت شرفةٍ تأوي إليها امرأةٌ كانت حبيبتي. رَقَص على الجمر، وعلى نغمات الناي. وهي من شرفتها، ترعى قافلة التنهدات التي تحج إلى مهبلها، وتمنحني عند اليقظة كأس نبيذٍ وعشبَ الأعماق».
كما يعيش القارئ نوعاً جديداً من مداخلة القصيدة بالثقافة، العالمية، والتراث، بأسلوب ترك الأمور للقارئ يكتشف بنفسه عناصر التداخل، مثل ما يحدث من إحساس بروح رامبو وأندريه بروتون وشكسبير، وسليمان والنمل في التراث القرآني، إضافةً إلى التخالف مع عناصر التداخل، فإحساس هاملت بهوام أوفيليا يجري برؤية وساط الخاصة، كما بقية استخدامات تفاحة آدم، وسليمان والنملة التي تدخل في الرؤية العامة لصراع الوجود والعدم، ضمن بقية العناصر التي تثريها لغةٌ غنية حارة متدفقةٌ، تنبض فيها عناصر الحياة من عصافيرٍ وفراشاتٍ وأزهارٍ وعشبٍ، إلى جانب سريان عناصر الموت التي تكلّلها عظامٌ تتفتت بأصابع في جيب بنطال:
«من حولنا قلوبٌ صغيرة تشقشق
وصناديقٌ يقال فيها الحديد فيه
بأس شديد
لكننا ندخّن وجداول النسيم
بحنوّ تُلامس أكتافنا
نعلم أن جسدينا
قد يضيعان في هذه العاصفة من
التصفيق
الآبار محظورة في هذا المكان
إنه المقهى الذي وأدوا
تحت آلام القمر
يومها، تركنا رأسينا
في غابةٍ
لتستعملها العنادل
المضروبة الأعناق».
ويلمس القارئ في جدوى ولا جدوى حَمْل وجوده صخرةَ سيزيف، وفي عبث انتظاره غودو، تداخلاتَ العبث في سريان الحياة والموت بالذات البشرية والذات الشاعرة التي تتقصى وتلتقط وتَنثّ أرواح العناصر في اللغة وفي ذوات المتلقين، وتتعالى شيئاً فشيئاً في أرواح القصائد المختارةِ السخريةُ المميزة لقصيدة النثر، من الحسرة والأسى في المجموعات الأولى إلى سخرية العبث العالية في المجموعة الأخيرة بخاصة.
وختاماً، لن تخلو جيوب ذاكرة القارئ مما يلتقط من ذكريات المختارات؛ التعاطفُ الإنساني، غير المدرك مباشرةً، مع الإنسان المتألم والمعذب في الحياة المسروقة والمظاهرات التي تواجَه بالعنف، والمعتقلاتُ التي تفتت البشر إلى هياكل عظميةٍ وأشباحٍ يُحضرها أصدقاؤها للسهر معها، ومحو أسى فقدها، في تداخل عوالمٍ لا يُعرف فيه الحيّ من الميت: «إذا اقتربت منك نملةٌ/ ورأيتَ في عينيها صفرةً/ وسمعت صرير مفاصلها/ فاعلم أنها هالكةٌ/ وإذا رأيت الدموع التي تتهادى على الأعشاب/ قد سارعتْ إلى دخول غيرانها/ فاعلم أنها توجستْ من خطاك/ إياك ومشية العسكر».
مبارك وساط: «أنطولوجيا شخصية»
منشورات حبر، شبكة الإنترنت.
186 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية